بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
فالإسلام يحرص على سلامة الولد من العيوب الخَلْقِيَّة والخُلُقِيَّة، التي قد تنقل إليه من والديه أو أحدهما، وشاهده قول رسول الله ﷺ: (تخيروا لنطفكم، فإن العرق دساس)([1])، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إياكم وخضراء الدمن، فإنها تلد مثل أبيها وعمها وخالها)، ولما قيل من هي يا رسول الله قال: (المرأة الحسناء في المنبت السوء)([2])، وفي هذا بيان بأن من مصلحة الأبوين ومصلحة الأمة منع انتقال العيوب والأمراض إلى النسل، إما بسبب عامل القرابة بين الوالدين، كما قال عمر -رضي الله عنه- لآل السائب: «قد أضويتم، فانكحوا في النوابغ»([3])، وإما بسبب عيب في الوالدين أو أحدهما يؤدي إلى انتقال الأمراض منهم إلى ذريتهم.
ومن العيوب في الزوجين أو أحدهما العيوب الجنسية، وهذه من المسائل الحساسة، خاصة أن منها ما يكون خفيًّا، لا يعلمه أحدهما إلا بعد أن يفضي إلى قرينه، وقد لا تكون المشكلة للزوج إذا وجد عيبًا في زوجته؛ لأنه يستطيع طلاقها، رغم ما في ذلك من المرارة لهما، إنما المشكلة للزوجة التي لا تستطيع إلا بحكم قضاء يفرق بينهما، خاصة إذا أصر الزوج على تمسكه بها رغم ما فيه من عيب.
وقد أسهب الفقهاء –رحمهم الله– في مسألة العيوب الجنسية:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا كان بالزوجة عيب فلا خيار للزوج([4]). (لأنه يملك الطلاق).
وفي مذهب الإمام مالك: إن الخيار يثبت للسليم من أحد الزوجين على المعيب الآخر أو لكل منهما في الآخر([5]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا وجد أحد الزوجين عيبًا عقليًّا أو مرضيًّا أو خلقيًّا ثبت له الخيار في فسخ النكاح([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجوز فسخ عقد الزوجية بسبب العيوب المرضية والجنسية([7]).
وقد اختلف الفقهاء في عدد العيوب التي يرون فيها سببًا موجبًا للتفريق بين الزوجين؛ فمنهم من جعلها ثلاثة، ومنهم من جعلها ثمانية ولكنها في مجلمها:
إما أن تكون مانعة للاتصال الجنسي بينهما بسبب عيب في أحدهما.
أو تكون هذه العيوب مظنة الخطر لأي منهما، كعدم سلامة عقل أحدهما.
أو إصابته بمرضٍ معد أو مرض غير معدٍ ولكن تنفر منه النفس.
وقد ذكر الإمام ابن القيم أن الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له؛ لأن العمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما، أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات، والمراد أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه لا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار([8]).
قلت: وتعداد الفقهاء للأمراض والعيوب الزوجية، قد يكون مقبولًا فيما مضى نظرًا لعدم قدرة الطب آنذاك على معالجة كثير منها، أما في هذا الزمان الذي تقدم فيه الطب على النحو المعروف، فلم يعد عدد من العيوب والأمراض مانعًا لاستمرار عقد الزوجية، ومن ذلك على سبيل المثال رائحة الفم، فقد عدوها عيبًا، وهذه لم تعد كذلك، بل أصبح علاجها يسيراً، ومن ذلك البهاق فقد عدوه عيبًا ولم يعد الآن كذلك، حيث أصبح من الممكن علاجه والسيطرة عليه.
ومن ذلك أيضًا العيوب الجنسية الخَلْقية، كزوائد اللحم التي قد تعيق الاتصال، كل ذلك مما يمكن علاجه فيكون المرجع إذًا في الطب الحديث، لتحديد ما يعد عيبًا يوجب التفريق كالإيدز، وما لا يعد عيبًا لكونه مما يمكن علاجه.
وللتفريق بسبب العيوب عدة شروط:
أولها: عدم رضا أحد الزوجين بالعيب قبل الدخول وبعده: أي عدم علمه بما في قرينه من عيب، ويبطل الخيار بالنص كالتصريح بإسقاط الخيار، وما يجري مجراه كما يسقط الخيار بالدلالة، وهي فعل ما يدل على الرضا بالعيب كالوطء.
وثاني الشروط: أن يكون العيب سابقًا للعقد: وغالب الفقهاء على ثبوت الخيار، متى كان العيب سابقًا للعقد أو حادثًا بعده، وقد خالف في هذا أصحاب مذهب الإمام مالك، وقالوا: إن العقد السابق للعقد أو المصاحب له هو الذي يثبت الخيار، أما العيب الذي يطرأ بعد العقد، فإن كان في الزوج فتخير الزوجة فيه إن كان فاحشًا، وإن كان غير فاحش فلا خيار لها، أما إن كان العيب الطارئ في الزوجة فليس لزوجها الخيار؛ لأن ما حدث مصيبة نزلت به([9]).
قلت: وهذا هو الصواب، لأن من المحتمل أن الزوج لا يعلم بالعيب السابق في زوجته، فيثبت له حينئذٍ الخيار، أما إذا تزوجها وهي سليمة، ثم حدث فيها عيب فليس من العدل أن يكون له الخيار في التفريق، فلا يملك حينئذٍ إلا الطلاق، وهو مما يبغضه الله، إذ ليس من المروءة أن يطلق المرء زوجته لعيب أو مرض طرأ لها، بل إن حسن المعاشرة يوجب عليه علاجها، عملًا بقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 91].
وثالث الشروط: أن يكون العيب فاحشًا: ومن ذلك المرض المعدي كالإيدز وغيره من الأمراض، التي يثبت الطب أنها تسبب خطرًا لأحد الزوجين.
ورابع الشروط: أن يثبت العيب: إما بإقرار أحد الزوجين أو بموجب تقرير طبي موثوق.
وخامس الشروط: أن يكون التفريق عن طريق القضاء. وسادس الشروط: أن طلب التفريق حق لمن يتضرر بالعيب([10])، أي لا يفسخ عقد الزوجية حتى تختار الزوجة الفسخ وتطلبه.
قلت: وهذا ليس على إطلاقه، فإذا ثبت أن في أحد الزوجين مرضًا مميتًا كالإيدز، فالأولى إجبار من سوف يتضرر منه (الزوج أو الزوجة) على فراق قرينه، عملًا بقول رسول الله ﷺ: (لا يوردن ممرض على مصح)([11])، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فر من المجذوم، كما تفر من الأسد)([12])، وقوله ﷺ: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)([13]).
وخلاصة المسألة: أن الإسلام يحرص على سلامة الزوجين وذريتهما من العيوب الَخْلقِيَّة والخُلُقِيَّة، كما يحرص على منع انتقال الأمراض والعيوب إلى النسل، والعيوب التي يرى الفقهاء فيها سببًا موجبًا للتفريق بين الزوجين، هي في مجملها: إما أن تكون مانعة للاتصال الجنسي بينهما لوجود عيب في أحدهما، أو تكون هذه العيوب مظنة الخطر لأي منهما، كعدم سلامة عقل أحدهما أو إصابته بمرض معد أو مرض غير معد، ولكن تنفر منه النفس، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة، وللتفريق بسبب العيوب عدة شروط هي: عدم رضا أحد الزوجين بالعيب قبل الدخول وبعده، وعدم علمه بما في قرينه من عيب، وأن يكون العيب سابقًا للعقد، وأن يكون العيب فاحشًا، ومن ذلك الأمراض المعدية كالإيدز وغيره من الأمراض، التي يثبت الطب أنها تسبب خطرًا لأحد الزوجين، ومنها ثبوت العيب، إما بإقرار أحد الزوجين، أو بموجب تقرير طبي موثوق، والجهة التي تتولى التفريق هي القضاء، وأن طلب التفريق حق لمن يتضرر بالعيب، وإذا ثبت أن في أحد الزوجين مرضًا مميتًا كالإيدز، فالأولى إجبار من يتضرر منه على فسخ عقد النكاح، ولو لم يطلب هذا الفسخ.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة مختصرًا دون قوله: «فإن العرق دساس»، سنن ابن ماجه ج1 ص633، برقم (١٩٦٨)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج3 ص56، برقم (٧٦٠١)، بلفظ «تخيروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم»، وقال: «الحديث بمجموع هذه المتابعات والطرق، وحديث عمر -رضي الله عنه- صحيح بلا ريب. ولن يجب أن يعلم أن الكفاءة إنما هي في الدين والخلق فقط».
([2]) رواه القضاعي في مسند الشهاب (ق 81 / 1) من طريق الواقدي، وأورده الغزالي في الإحياء ج2 ص38، وقال مخرجه العراقي: «رواه الدارقطني: في الإفراد والرامهرمزي في الأمثال من حديثه من أبي سعيد الخدري، قال الدارقطني تفرد به الواقدي وهو ضعيف» المغني عن حمل الأسفار ج2 ص40، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة ج1 ص69: «ضعيف جدًّا».
([3]) المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار لزين الدين العراقي مطبوع بهامش إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص41
([4]) شرح فتح القدير لابن الهمام، ج3 ص267
([5]) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل، ج3 ص418
([6]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب، ج3 ص202
([7]) تفصيل ذلك في المغني والشرح الكبير لابني قدامة، ج٧ ص٥٨٠-٥٨٤.
([8]) زاد المعاد في هدي خير العباد ج5 ص7، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا.
([9]) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل ج3 ص421، وينظر أيضًا: حاشية الدسوقي ج2 ص277، ومغني المحتاج ج3 ص206، والمغني لابن قدامة ج7 ص112
([10]) شرح فتح القدير ج4 ص298-304، والبحر الرائق ج4 ص205-213، وأسهل المدارك ج2 ص93-100، والمهذب للشيرازي ج2 ص48-51، وكشاف القناع ج5 ص15، 114، وكتاب الفروع ج5 ص228-248.
([11]) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة، فتح الباري ج10 ص251، برقم، (5771).
([12]) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الجذام، فتح الباري ج10 ص167، برقم (5707).
([13]) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، فتح الباري ج10 ص189، برقم (5728).