الجواب:مما لا ريب فيه أن قلوب الخلق قد فُطِرَتْ حقًّا على الإيمان بأن الله هو خالق السماوات والأرض، وأنه صانع الكون ومدبره، والمتصرف فيه، وأنه يسيره وحده، وأنه الذي يحيي الخلق، ويميتهم. ولم يشذ عن هذا الاعتقاد إلا فرعون حين كذب الرسالة وعصى ما أمره الله به على لسان نبيه موسى؛ فادعى الربوبية فيمـا حكاه الله عنه في قولـه عـز وجـل:{فَكَذَّبَ وَعَصَى*ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى*فَحَشَرَ فَنَادَى*فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:12–42]. ولم يكن فرعون يؤمن في نفسه بصدق مقولته؛ لأن فطرته مثل سائر المخلوقين تقر بربوبية الله وحده، إلا أنه بسبب عناده وتكبره كان ينكر هذه الربوبية، في ظاهره، كما قال الله عز وجل عنه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين}[النمل:41]. وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُون} [القصص:93] ([1]).
وقد أقر المشركون على اختلاف طوائفهم ومللهم ونحلهم بمن فيهم مشركو العرب بهذا التوحيد، فيما حكاه الله عنهم في قوله عز وجل:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون} [يونس:13]. وقوله جل ثناؤه:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الزمر:83]. فاقتضى هذا أن الذين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية من المشركين وغيرهم لم يقروا بتوحيد الألوهية؛ وهذا هو ما جعلهم يشركون مع الله غيره. ولهذا أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى توحيد الألوهية المقتضي إفراد الله وحده بالعبادة.
وهذا التوحيد متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته يقتضي حكماً وعقلاً الإيمان بوحدانيته في ألوهيته؛ فالحكم هو حكم الله في أن من يوحده في ربوبيته يجب أن يكون موحداً له في إلَهيته، فإن انتفى منه هذا التوحيد لم ينفعه توحيد الله في ربوبيته لقول الله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:32]. وقوله:{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأنعام:٨٨].
وأما العقل فإن من يقر بتوحيد الله في ربوبيته يقتضي أن يؤمن أنه هو المستحق وحده للعبادة؛ فإن أشرك معه في هذه العبادة أحداً غيره لم يكن مقرًّا بتوحيد الربوبية لا بالقول ولا بالمعنى؛ لأن الإقرار بوحدانية الله لا يتجزأ إلى إقرار بربوبيته، ونفي لإلَهيته، فهذا منتهى التناقض والتعارض.
لهذا جاءت الآيات الدالة على توحيد الإلَهية مقترنة بتوحيد الربوبية، وهذه الآيات كثيرة في كتاب الله، منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون*الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً}[البقرة:12-٢٢]. وقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ}[الأنعام:64]. وقوله عز من قائل:{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين}[الأنعام:41]. وقوله جل ثناؤه: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون*سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون*قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم*سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون}[المؤمنون:48– 78].
وفي الكلام عن جمع توحيد الربوبية، وجمع توحيد الإلَهية يقول الإمام ابن القيم:«.. الجمع الصحيح الذي عليه أهل الاستقامة هو جمع توحيد الربوبية وجمع توحيد الإلَهية، فيشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه، يدبر أمر عباده وحده فلا خالق ولا رازق، ولا معطي ولا مانع، ولا مميت ولا محيي ولا مدبر لأمر المملكة -ظاهراً وباطناً- غيره؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه، وأحاطت بها قدرته، ونفذت بها مشيئته، واقتضتها حكمته، فهذا جمع توحيد الربوبية.
وأما جمع توحيد الإلَهية، فهو أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله، وإرادته وحركاته على أداء حقه تعالى، والقيام بعبوديته سبحانه، فتجتمع شئون إرادته على مراده الديني الشرعي.
وهذان الجمعان هما حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، فإن العبد يشهد من قوله (إِيَّاكَ) الذات الجامعة لجميع صفات الكمال التي لها كل الأسماء الحسنى، ثم يشهد من قوله (نَعْبُدُ) جميع أنواع العبادة ظاهراً وباطناً قصداً وقولاً وعملاً وحالاً واستقبالاً. ثم يشهد من قوله: (وإِيَّاكَ نَسْتَعِين) جميع أنواع الاستعانة والتوكل والتفويض، فيشهد منه جمع الربوبية، ويشهد من (إياك نعبد) جمع الإلَهية . ويشهد من (إِيَّاكَ ) الذات الجامعة لكل الأسماء الحسنى والصفات العلى» انتهى([2]).
وأما سؤال الأخ السائل عن الحكمة من اقتران آيات الإلَهية بآيات الربوبية، فهذه الحكمة بينة من ثلاثة أوجه:
أولها: أن توحيد الإلَهية متضمن -كما ذكر- توحيد الربوبية، وليس العكس، وقد بيَّن الله في آيات من كتابه الكريم أن الذين يُعْبَدون من دون الله مخلوقون، والمخلوق لا يمكن أن تكون له قوة أو قدرة مثل قوة الخالق وقدرته. قال تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون*وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُون}[الأعراف:191–291]. وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون}[يونس:81] .
الوجه الثاني: بيان الله للخلق أن المقصود بالتوحيد ليس مجرد الإقرار بتوحيد الربوبية وحده، بل لابد لكمال التوحيد من الإقرار بتوحيد الإلَهية المقتضي أن الله وحده هو المستحق أصلاً للعبادة، لا يشركه فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا أحد من خلقه؛ بل هو المتفرد بها حقًّا، وصدقًا، وإخلاصًا. عملاً بقوله عز وجل:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:11]. وقوله عز من قائل:{أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:٣].{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥] .
الوجه الثالث: أن الخلق إذا علموا ذلك بحكم ما جاءهم من البينات، ثم جحدوا توحيد الإلَهية حق عليهم العقاب، بعد أن قامت الحجة عليهم بما علموه من هذه البينات من كتاب الله، ومن سنة رسوله محمدr ، وفي هذا قال الله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُون} [الأنعام:49] .
وخلاصة المسألة:أن توحيد الإلَهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته، يقتضي حكماً وعقلاً الإيمان بوحدانيته في ألوهيته؛ فالحكم هو حكم الله في أن من يوحده في ربوبيته، يجب أن يكون موحداً له في ألوهيته، فإن انتفى منه هذا التوحيد لم ينفعه توحيد الله في ربوبيته لقول الله تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأنعام:٨٨] .
وأما العقل فإن من يقر بتوحيد الله في ربوبيته يقتضي أن يؤمن أنه هو المستحق وحده للعبادة، فإن أشرك معه في هذه العبادة أحداً غيره لم يكن مقرًّا بتوحيد الربوبية لا بالقول ولا بالمعنى؛ لأن الإقرار بوحدانية الله لا يتجزأ إلى إقرار بربوبيته، ونفي لإلَهيته، فهذا منتهى التناقض والتعارض.
وخلاصة المسألة: أن الحكمة من اقتران آيات الإلَهية بآيات الربوبية بينة من ثلاثة أوجه: الأول: أن الذي يُعْبَد من دون الله مخلوق، وهذا لا يمكن أن تكون له قوة وقدرة مثل قوة الخالق وقدرته. الوجه الثاني: بيان الله للخلق أن المقصود بالتوحيد ليس مجرد الإقرار بتوحيد الربوبية وحده، بل لابد لكمال التوحيد من الإقرار بتوحيد الإلَهية، المقتضي أن الله هو المستحق وحده للعبادة .
الوجه الثالث: أن الخلق إذا علموا ذلك بحكم ما جاءهم من البينات في كتاب الله وسنة رسوله، ثم جحدوا توحيد الإلَهية حقّ عليهم العقاب.
([1]) وقد سبق الكلام عن هذا في فقه شهادة ألا إله إلا الله.
([2]) مدارج السالكين بين منازل (إياك نعبد وإياك نستعين)، ج3 ص532-533.