والجواب: قال الله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق*خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم*عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم}[العلق:١– ٥].
هذه السورة من السور المكية، وأول ما نزل من القرآن على رسول الله محمدr لما روته عائشة -رضي الله عنها- أنه:«أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ . قال:ما أنا بقارئ، قال:فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:اقرأ، قلت:ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:اقرأ، فقلت:ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق*خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم}فرجع بها رسول اللهr يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال:زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة:كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» الحديث([1]). وقد تقدم الكلام عنه بالتفصيل([2]).
وقول الله عز وجل (اقرأ) أمر منه لنبيه ورسوله أن يقرأ ما أنزل إليه من القرآن، وأن يكون في قراءته مبتدئاً ومفتتحاً ومستعيناً باسم ربه . وقد حُذِف اسم المقروء (وهو القرآن) لأن من المعلوم له عليه الصلاة والسلام أنه المقصود بالأمر له بقراءة القرآن ([3]).
وقوله عز وجل (باسم ربك) فإن الله لم يأت بلفظ الجلالة (الله) لأن في لفظ الرب في هذا المقام -أي بداية النبوة- دلالة حسية على تربية الله لنبيه، فـ(ربك) أي الذي رباك، وأنعم عليك بنزول الوحي، واختصك به([4])، وأنه لم يتخلَّ عنك، ولم يبغضك -كما كان المشركون يقولون:قلاه ربه، أي أبغضه، وإنما آواك حال يتمك، وأنعم عليك بالهداية والغنى بعد الفقر، وهو ما دل عليه قوله عز وجل في سورة الضحى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى*وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى*وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}[الضحى:٦– ٨] .
وأما قوله عز وجل (الذي خلق) ففيه تأكيد لمعنى الربوبية؛ فالله هو الرب، وهو الخالق الذي أوجد الخلق وأنشأهم من العدم إلى الوجود، ثم فسر ذلك بقوله عز وجل (خلق الإنسان من علق) أي من قطعة الدم الغليظة المتجمدة، وفي هذا تعظيم لربوبيته، وقدرته على الخلق. ثم أكد الله لنبيهr مرة أخرى بأن يقرأ مع ما يجب عليه من اليقين بأن الذي أمره بها هو الرب الأكرم الكامل في كرمه، ونعمه على خلقه. ومن كمال كرمه وفيض نعمه أن علم الإنسان بالقلم، ليكتب ما فيه خير له، وعلمه ما لم يعلم؛ وفي هذا تقييد وحصر بأنه الرب، الذي ما زال ولا يزال يُعلِّم الإنسان ما يجهله.
قلت :هذا هو ظاهر ما أنزل الله على نبيه ورسولهr من الآيات في بداية الوحي إليه، إلى أن جاءه الوحي بالنذير والتكبير في قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّر*قُمْ فَأَنذِر*وَرَبَّكَ فَكَبِّر} [المدثر:١–٣]. إلى آخر ما جاء في سورة المدثر.
وابتداء الوحي بتوحيد الربوبية له ثلاث حكم أو أحكام:أولها:أن أمر الله لرسولهr بالقراءة باسم ربه أمر له بالامتثال، فإن لم يفعل ذلك لم يكن ممتثلاً -وحاشاه أن يكون كذلك- ([5])، وهذا نظير قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} [المائدة:76].
وثانيها:تأكيد أن الرب هو الخالق، وفي لفظ (الرب) في بداية نزول الوحي دلالة حسية على تربية الله لنبيه، بمعنى أن ربه هو الذي رباه بنزول الوحي عليه . وثالثها:أن في الأمر بالقراءة في بداية الوحي توجيهاً من الله لرسولهr ولأمته من بعده بالاهتمام بالعلم، وهو هنا بمعنى القراءة وشواهد هذا كثيرة من كتاب الله في فضل العلم وأهله، منها قوله عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر:82]. وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[الزمر:٩] .
وخلاصة المسألة: أن قول الله عز وجل (اقرأ باسم ربك) أمر لنبيه ورسوله أن يقرأ ما أنزل إليه، مبتدئاً ومستعيناً باسم ربه. ولم يأت الله بلفظ الجلالة (الله) لأن في لفظ الرب في بداية الوحي دلالة حسية على تربية الله لنبيهr بنزول الوحي عليه . أما قول الله عز وجل (الذي خلق) ففيه تأكيد لمعنى الربوبية، فالله كما هو الرب فهو الخالق الذي أنشأ الخلق من العدم إلى الوجود. ولابتداء نزول الوحي بتوحيد الربوبية ثلاث حكم أو أحكام:
أولها: أن أمر الله لنبيه ورسوله rبالقراءة باسم ربه أمر له بالامتثال. وثانيها:تأكيد أن الرب هو الخالق، وفي لفظ (الرب) في بداية نزول الوحي دلالة حسية على تربية الله لنبيهr بنزول الوحي عليه. وثالثها:أن أمر الله لرسولهr بالقراءة في بداية الوحي فيه توجيه له ولأمته من بعده بالاهتمام بالعلم وهو هنا بمعنى القراءة.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، فتح الباري، ج١ ص٠٣-١٣، برقم (٣).
([2]) في فقه الشهادتين، مبحث: «مبعث النبي ».
([3]) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج٠٢ ص٩١١ .
([4]) انظر: البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ج٠١ ص٧٠٥ ، وروح المعاني للآلوسي، ج٩٢ ص١٢٣-٥٢٣ .