الجواب: أمر الشرك عظيم، وجزاؤه أليم؛ لأن صاحبه ينكر تفرد الله بالعبادة؛ فيجعل له شريكًا يضاهيه فيما هو متفرد به حصرًا، من صرف الدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعاذة، والاستغاثة، وسائر أنواع العبادة له وحده لا يشركه في ذلك أحد من خلقه، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. ولهذا جاءت عقوبة الشرك مختلفة عن الأفعال الأخرى من المعاصي وغيرها؛ ذلك أن المشرك مع الله غيره ينكر حقيقة تفرده المطلق بالعبادة، بينما غير المشرك يعترف بهذه الحقيقة في إطلاقها، ولكنه يرتكب بعض الأفعال غير الشركية، فيكون عقابه أخف، وهذا هو حكم الله -عز وجل- في قوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 84].
فاقتضى هذا حكمين: الأول: أن المشرك لا يقع تحت هذه المشيئة بدليل هذه الآية وآيات أخرى، منها قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 27]. وقوله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزمر: 56].
وهذا الحكم يختص حصرًا بالمشرك الذي يصر على شركه، ويموت عليه رغم ما جاءه من البينات. أما إن تاب من شركه، وأخلص في توبته بشروط التوبة المعروفة؛ فإن الله يقبل توبة عباده، ويغفر جميع ذنوبهم، لعموم قوله -عز وجل-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيما} [النساء: 71]. وقوله جل ثناؤه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر: 35].
الحكم الثاني: أن غير المشرك يقع تحت المشيئة الربانية في المغفرة له من ذنوبه، لقوله -عز وجل-: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}. وذلك خلافًا لما يقوله المعتزلة([1])من خلود أصحاب الكبائر في النار، وما يقوله الخوارج([2]) من التكفير بالذنوب([3]).
والشرك كما سبق ذكره([4]) نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
أما الشرك الأكبر: فكان معروفًا عند العرب في جاهليتهم، وعند كثير من الأمم من عبادتهم للأوثان، والأصنام، والأولياء والصالحين؛ فكانت دعوة الرسل ومنها دعوة نبينا ورسولنا محمد r تحذرهم من هذا الشرك، وتبين لهم أن المعبود بحق هو الله المتفرد مطلقًا بالعبادة، وأن من أشرك معه غيره فقد حبط عمله، وأن جزاءه سيكون عظيمًا، وهو الخلود في النار. وإذا كانت عبادة الأوثان والأصنام المادية قد زالت أو تضاءلت بعد أزمنة الجاهلية، فإن المرء قد يقع في الشرك دون أن يدرك عاقبة فعله، والأمثلة على هذا كثيرة، منها: الذهاب إلى قبور من يسمون بالأولياء والصالحين لرجائهم والاستعانة والاستغاثة بهم لقضاء الحوائج، وتفريج الكربات، كما يفعله بعض العامة، وهذا مخالف لحقيقة تفرد الله المطلق بالعبادة، الذي لا تطلب الاستعانة أو الاستغاثة أو الرجاء إلا منه، ولا تصرف سائر أنواع العبادة إلا له وحده لا شريك له، لقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: ٩]. وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر: 06]. وقوله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: ٥].
ومن هذه الأفعال الشركية الذبح لغير الله، كما يفعله بعض المرضى الذين يطيعون الكهنة، والعرافين، فيذبحون للجن والشياطين اعتقادًا أن الشفاء يطلب منهم، وهذا مناف لحقيقة التوحيد؛ لأن الذبح لا يجوز إلا لله كما قال -عز وجل- لنبيه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام: 261–361]. ومن هذه الأفعال تصديق العرافين والسحرة فيما يأمرون به من الشعوذة، وصرف العبادة للشياطين لدفع خوفهم وضرهم، وفي ذلك قال -عز وجل-: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 571]. فكل هذه الأفعال وما شابهها قد تبدو للمرء البسيط صغيرة في مظهرها، ولكنها في حقيقتها كبائر وشرك أكبر، توقع صاحبها في الإثم العظيم، فوجب حكمًا على المسلم الخوف من الوقوع فيها حتى لا يقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر الله لصاحبه.
النوع الثاني من الشرك: شرك أصغر: وهو رياء المرء في عمله، وهذا الشرك -خلافًا للشرك الأكبر- لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام، ولكنه يؤثر في ما يكتسبه من ثواب عمل يعمله، وقد يحبطه، ودليل هذا من الكتاب قول الله -عز وجل-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 011]، أما من السنة فقول رسول الله محمد ﷺ: (من سمَّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به)([5]). وقوله r: (إياكم والشرك الأصغر) قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: (الرياء. يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون بأعمالكم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)([6]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (يقول الله: من عمل صالحًا أشرك معي فيه غيري، فهو للذي أشرك وأنا منه بريء)([7]). وقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال عندي ؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمقام الرجل) وفي حديث آخر: (يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه)([8]). ولما بكى شداد بن أوس وقيل له ما يبكيك؟ قال: شيء سمعته من رسول الله r فأبكاني، سمعت رسول الله rيقول: (أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية) قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: (نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم. والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا، فتعرض له شهوة من شهواته، فيترك صومه)([9]).
والرياء قد يتحول إلى نفاق، أو شرك أصغر، والمعيار في هذا نية المرء ومقصده، فإن كان يقصد بصلاته وصومه وحجه وصدقته، مدح الناس له، وثناءهم عليه فهو منافق، ودليل هذا قول الله -عز وجل-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا} [النساء: 241] . وإن كان يبتغي من عبادته أو زهده طلب وظيفة أو منصبًا أو خلافه فهو أيضًا منافق، وهذا يحدث كثيرًا من الذين يتركون التوكل على الله في طلب معاشهم، ثم يظنون أنهم بريائهم لدى من عنده القدرة من البشر، يصلون إلى مبتغاهم، في الوصول إلى المناصب والوظائف. فقد روي أن أحدهم في زمن الإمام أبي حنيفة جحد حقًا لأحد الناس، فشكاه هذا إلى الإمام أبي حنيفة ، فأمره أن ينتظر قليلًا، ثم طلب المدعى عليه بالحق وعرض عليه ما يفيد عن اختياره له لمنصب القضاء، ثم قال الإمام لصاحب الحق: اذهب فاذكرني عنده، فذهب الرجل إليه عملًا بما نصحه به الإمام أبو حنيفة، فرد عليه حقه. ولما جاء الرجل يريد توليته القضاء قال له الإمام: لقد رفعنا قدرك عن القضاء.
وإثم هذا النفاق عظيم، وعقابه أليم بدليل قول الله جل ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 541]. أما الرياء الذي يؤدي إلى الشرك الأصغر، فهو أن صاحبه يريد بعمله من صلاة وصيام وعبادة وجه الله عز وجل، ولكن الشيطان يدخل عليه فيزين عمله عندما يرى من ينظر إليه، ولو كان لا يقصد منه منفعة.
ولهذا قال رسول اللهﷺ: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)([10]). فاقتضى هذا وجوب حذر المسلم وخوفه من الوقوع في هذه الأعمال، التي تحبط عمله فيأتي يوم القيامة، فلا يرى من عمله إلا الحسرة والندم.
وخلاصة المسألة: أن أمر الشرك عظيم، وجزاؤه أليم؛ لأن صاحبه ينكر تفرد الله بالعبادة، فيجعل له شريكًا يضاهيه فيما هو متفرد به حصرًا، من صرف سائر أنواع العبادة له وحده لا شريك له. وقد ذكر الله -عز وجل- في كتابه الكريم أنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 84]. فاقتضى هذا حكمين: الأول: أن المشرك لا يقع تحت المشيئة بدليل هذه الآية، وآيات أخرى في كتاب الله. وهذا يختص حصرًا بالمشرك الذي يصر على شركه، ويموت عليه.
الحكم الثاني: أن غير المشرك يقع تحت المشيئة الربانية في المغفرة له من ذنوبه.
والشرك نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر، أما الشرك الأكبر فكان معروفًا عند العرب في جاهليتهم، وعند كثير من الأمم من عبادتهم للأوثان والأصنام، والأولياء والصالحين، وإذا كانت عبادة الأصنام قد زالت أو تضاءلت في هذه الأزمنة، فإن المرء قد يقع في الشرك دون أن يدرك عاقبة فعله، ومن ذلك الذهاب إلى قبور من يسمون بالأولياء، والصالحين لرجائهم والاستعانة، والاستغاثة بهم، لقضاء الحوائج، وتفريج الكربات كما يفعله بعض الجهلة. ومن هذه الأفعال الذبح لغير الله، وصرف العبادة للشياطين لدفع ضررهم.
النوع الثاني من الشرك: شرك أصغر، وهو رياء المرء في عمله، وهذا -خلاف الشرك الأكبر- لا يخرج صاحبه من الملة، ولكنه يؤثر في عمله. والرياء قد يتحول إلى نفاق، فإن كان المرء يقصد من عبادته مدح الناس له وثناءهم عليه، فهو منافق، وإن كان يبتغي من عبادته طلب وظيفة أو منصب فهو أيضًا منافق، والمعيار في كل ذلك هو نيته ومبتغاه، فإن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
([1]) المعتزلة اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين سنة ٥٠١وسنة٠١١هـ، بزعامة رجل يسمى واصل بن عطاء الغزال، وقد اعتمدت هذه الفرقة على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية، لتأثرها بشتى الفلسفات والاتجاهات المستوردة، مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة، ولهم الأصول الخمسة، ولا يسمى الشخص معتزلياً حتى يقول بهذه الأصول، وهي: ١- التوحيد. ٢- العدل. ٣- الوعد والوعيد. ٤- القول بالمنزلة بين المنزلتين. ٥- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر: الملل والنحل للشهرستاني، ج١ ص٨٣-٥٠١.
([2]) الخوارج فرقة كبيرة من الفرق الاعتقادية، وتمثل حركة ثورية عنيفة في تاريخ الإسلام السياسي. قد عرّفها الشهرستاني في كتابه الملل والنحل ج١ ص٤١١: «كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيًّا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أم كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان». من أصولهم الأساسية: تكفير مرتكب الكبيرة، وجوب الخروج على الأئمة المسلمين لارتكاب الفسق والظلم، إنكار الشفاعة إلى جانب تأثرهم بالجهمية في القرآن والرؤية وبقول المعتزلة في الصفات، وخوضهم في مسائل القدر والسمعيات، وقولهم بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد.. انظر: الملل والنحل، للشهرستاني، ج١ ص٦٠١-٩٤١.
([3]) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ ص٤٦.
([4]) سبق تفصيل ذلك في فقه الشهادتين.
([5]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2986)، أخرجه الإمام أحمد في المسند ج٥ ص٥٤، والترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الوليمة ج٣ ص٣٠٤-٤٠٤، بلفظ «من سمَّع سمّع الله به».
([6]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج٣ ص٢٣، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٢٣٦٣٦): إسناده حسن.
([7]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج٢ ص١٠٣، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (٩٦١٩): إسناده صحيح على شرط مسلم.
([8]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج٣ ص٠٣، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة، سنن ابن ماجة، ج٢ ص٦٠٤١، برقم (٤٠٢٤)، قال الذهبي في المهذب (2/730): إسناده حسن.
([9]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج4 ص124، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند (١٧١٢٠): إسناده ضعيف جدا.
([10]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي. باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، فتح الباري ج1 ص15، رقم الحديث1.