الجواب: مصدر التوحيد وحَّدَ؛ فوحَّد الأمور إذا جمعها في أمر واحد، ووحد البلدان إذا جمعها في بلد واحد، ووحد الآراء إذا جعلها رأياً واحداً. أما في الاصطلاح: فإن التوحيد هو الإقرار المطلق بأن الله واحد في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، لا يضاهيه ولا ينازعه في ذلك أحد؛ فمن ضاهاه أو نازعه فيما هو مختص به عز وجل، فهو إما أن يكون جاحداً لحقيقة ما جاءت به رسل الله وأنبياؤه من البينات، وآخرهم وخاتمهم محمدr ، وإما أنه يشرك مع الله غيره، وفي كلتا الحالتين تنتفي عنه صفة التوحيد.
وكلمة التوحيد هي (لا إلَه إلا الله)، وهي تشتمل على نفي الألوهية (لا إلَه) عما سوى الله، حيث قُيّد هذا النفي حصراً بإثبات الألوهية له وحده بقول (إلا الله). وكلمة التوحيد هذه هي مدار رسالات الأنبياء والرسل إلى قومهم، فكان كل منهم يدعو قومه إلى الإقرار بها قولاً وعملاً، ويحذرهم مما سيحيق بهم من العذاب إذا لم يقروا بها.
وتوحيد الله يقتضي الإقرار بأمور ثلاثة:أولها- الإقرار المطلق بربوبيته عز وجل بأنه الرب الواحد الأحد([1]) الذي خلق السموات والأرض، وسائر المخلوقات من العدم إلى الوجود، كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين}[الأعراف:45]. والإقرار بأنه كما خلق الخلق يحييهم ويميتهم ويبعثهم ويدبر أمورهم ويرزقهم ويملك أسماعهم وأبصارهم{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون}[البقرة:82]. {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون} [يونس:13].
والإقرار بأنه مالك السموات والأرض ومن فيهن، وأن كل من فيهن يسبح بحمده {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].
الأمر الثاني: الإقرار المطلق بوحدانيته في العبادة فلا يعبد بحق إلا هو، وهذا هو أمره لخلقه{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:12]. {*وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء:63]. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[الذاريات:65] . وهذا هو ما أمر به أنبياءه ورسله أن يبلغوه إلى قومهم {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [هود:05]. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُه}[هود:16]. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [هود:48]. {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:27]. وهذا هو أمره لنبيه محمدr {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} [الحجر:٩٩]. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:321]. {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي}[طه:41]. {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر:٢]. {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين} [الزمر:٦٦].
الأمر الثالث من أمور التوحيد: الإقرار بوحدانية الله في أسمائه وصفاته، وهذا يقتضي حكماً تحريم تشبيهه أو تمثيله بأحد من خلقه في المعنى، والوصف، أو الجزء، أو الكل؛ فهو متفرد بأسمائه وصفاته كما قال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].
هذه هي أركان التوحيد أو أنواعه فلا يكمل إلا بكمالها، ولا يتم إلا بتمامها؛ فمن نفى أو نقص شيئاً منها انتفت عنه صفة التوحيد؛ ذلك أن الذين يرون أن إقرارهم بربوبية الله فحسب يبلغهم غاية مرتبة التوحيد ليسوا من أهل التوحيد، ولا من التوحيد في شيء، فمشركو العرب في جاهليتهم، ومن كان على شاكلتهم من الأمم كانوا يقرون بربوبية الله ويعتقدون أنه الخالق، ولكن ذلك لم يكن لينفعهم حين أشركوا مع الله غيره، فعبدوا الأصنام واستعانوا واستغاثوا بالمخلوق فعبدوه، وذبحوا له، وجعلوه نداً لله. كما أن الذين خاضوا في الصفات فتكلموا في صفات الله فأنكروها، وتأولوها، وتجرؤوا على الله، فوصفوه بغير ما وصف به نفسه، فهؤلاء ليسوا من أهل التوحيد، بل هم أشد كفراً من الكافرين المنكرين لتوحيد الله في ألوهيته.
وقد أجمل الإمام ابن القيم معنى التوحيد بقوله:«.. وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه:فوراء ذلك كله، وهو نوعان:توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى، وأسماؤه، وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمه. وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر؛ وأول سورة تنزيل السجدة؛ وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
النوع الثاني:ما تضمنته سورة{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} [الكافرون:1].
وقوله:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:46]. وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) ووسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها، وجملة سورة (الأنعام)، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد.
بل نقول قولاً كليًّا:إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه. فإن القرآن:إما خبر عن الله، وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري. وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم»([2]).
وخلاصة المسألة: أن توحيد الله يقتضي الإقرار بأمور ثلاثة: أولها: الإقرار المطلق بربوبيته؛ بأنه الرب الواحد الأحد الذي خلق السموات والأرض، وسائر المخلوقات من العدم إلى الوجود . والإقرار بأنه كما خلق الخلق يحييهم، ويميتهم، ويبعثهم، ويدبرهم، ويرزقهم، ويملك أسماعهم وأبصارهم . والإقرار كذلك بأنه مالك السماوات والأرض، ومن فيهن، وأن كل من فيهن يسبح بحمده .
الأمر الثاني: الإقرار المطلق بوحدانيته في العبادة؛ فلا يعبد بحق إلا هو.
الأمر الثالث: الإقرار بوحدانية الله في أسمائه، وصفاته، وهذا يقتضي حكماً تحريم تشبيهه، أو تمثيله بأحد من خلقه في المعنى أو الوصف، أو الجزء، أو الكل، فهو متفرد بأسمائه، وصفاته، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . فمن نفى أو نقص شيئاً من هذه الأركان انتفت عنه صفة التوحيد.
([1]) ولا يختص بهذه الأحدية غيره، ولا يوصف بها إلا هو؛ فلا يقال رجل أحد أو درهم أحد، المصباح المنير ج١ ص٥٦، وانظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، للشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي ص٤١- ٨١.
([2]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام ابن القيم، ج٣ ص٨٦٤-٩٦٤ .