سؤال من الأخ ب ش‮.. ‬من محافظة الجزائر الكبرى،‮ ‬عن معنى اتخاذ‮ ‬الأحبار والرهبان أربابًا‮ ‬من دون الله، كما ورد في‮ ‬القرآن الكريم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

معنى اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا‮ ‬من دون الله‮

الجواب: الحبر أحد علماء اليهود أو فقهائهم([1]). والجمع أحبار. والراهب هو المتنسك من النصارى (المسيحيين) الذي ينقطع عن أمور الدنيا، ويوطن نفسه على الرهبنة، والجمع رهبان([2]). وقد أخبر الله أن أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله في قوله -عز وجل: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون} [التوبة: 13–23].

وليس المقصود بالربوبية هنا أن أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية يعبدون أحبارهم ورهبانهم بمعنى العبادة البدنية، فيركعون ويسجدون لهم، وإنما المقصود المعنى المجازي أي أنهم اتخذوهم سادة من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرمه الله عليهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم مما قد أحله الله لهم. وقد تكون العبادة حقيقية حين يركعون أو يسجدون لهم كما سيأتي، وشاهد هذا ما رواه عدي بن حاتم مرفوعًا أنه لما بلغته دعوة رسول الله r فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسِرت أخته وجماعة من قومه (قبيلة طيء)، ثم مَنّ رسول الله r على أخته، ورجـعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسـول الله r، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسًا في قومه، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله r وفي عنقه صليب من فضة، وكان رسول الله يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم)([3]).

ويقتضي ما سبق ذكره أن كل من يطيع غيره سواء كان عالمًا أو نحوه في تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحله فقد اتخذه ربًا بمعنى معبودًا له، كقولهم في الاستعارة فلان يعبد فلانًا إذا بالغ في طاعته. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها طاعة بعض الجهلة لبعض مشايخ الطرق والفرق المنحرفة، في استعانتهم واستغاثتهم بغير الله؛ فمن استعان أو استغاث بغير الله فقد اتخذه ربًا. ومن ذلك طاعة الغفل للسحرة والكهنة حين يأمرونهم بالذبح للشياطين. ومن ذلك سجود بعض الجهلة لمشايخ طرقهم وفرقهم؛ فمن سجد لغير الله فقد اتخذه ربًا، ولهذا قال رسول الله ﷺ: (لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)([4]). ومن ذلك أيضًا اتباع الإنسان لهواه خلافًا لما أمره الله به أو نهاه عنه فيحل لنفسه الحرام، ويحرم عليها الحلال. وقد سمى الله الهوى إلَهًا في قوله -عز وجل-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 32].

وأما قول الله -عز وجل- في الآية الكريمة {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 13]، فمعناه أن المقصودين في الآية من أصحاب الديانتين اتخذوا الأحبار، والرهبان، والمسيح ابن مريم أربابًا من دون الله، وهنا يقتضي التفريق بين الحالتين، فالأحبار والرهبان كانوا يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال، كما قال ذلك رسول الله r لعدي بن حاتم، أما المسيح ابن مريم عليه السلام فلم يأمرهم إلا بطاعة الله، كما ذكر الله عز وجل ذلك عنه في قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 711]، ولكنهم اتخذوه ربًا فأنكر ذلك عليهم فيما حكاه الله جل ثناؤه في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} [المائدة: 27].

وأما قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا} [التوبة: 13] فالمقصود بهذا أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية؛ لأن الضمير يعود إليهم في قوله -عز وجل-:  {وَمَا أُمِرُواْ} [التوبة: 13]، أي أن الأمر الذي جاء في التوراة، والإنجيل، وسائر الكتب السماوية هو إفراد العبادة لله وحده، وأنه لا معبود في الوجود بحق إلا هو، وأن من يجعل له شريكًا أو ندًا أو مثيلًا أو نظيرًا فقد أشرك، وحبط عمله، وأصبح من الخاسرين.

وخلاصة المسألة: أن المقصود بالربوبية هنا المعنى المجازي، أي أن أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية يطيعون أحبارهم ورهبانهم في معاصي الله؛ فيحلون ما أحلوه لهم، مما قد حرمه الله عليهم؛ ويحرمون ما يحرمونه عليهم مما قد أحله الله لهم. وقد تكون العبادة حقيقية حين يركعون أو يسجدون لهم.

فاقتضى هذا أن كل من يطيع غير الله سواء كان عالمًا، أو نحوه في تحليل ما حرمه الله، أو تحليل ما أحله فقد اتخذه ربًا بمعنى معبودًا له. ومن ذلك أيضًا اتباع الإنسان لهواه، خلافًا لما أمره الله به أو نهاه عنه، فيحل لنفسه الحرام ويحرم عليها الحلال. ومعنى قول الله تعالى: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 13] النصارى اتخذوا المسيح ربًا من دون الله، مع أن المسيح عليه السلام لم يأمرهم إلا بطاعة الله. وأما معنى قوله -عز وجل-: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا} [التوبة: 13] فالمقصود: أن الأمر الذي جاء في التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية هو إفراد الله بالعبادة.

([1]) ويطلق الاسم على المسلم كما قيل في ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنه حبر الأمة. انظر: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي ج٩ ص٢٢١.

([2]) انظر: روح المعاني ج٩ ص٢٢١.

([3]) تفسير القرآن العظيم ج٢ ص٣٣٣.

([4]) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة، سنن ابن ماجه ج1 ص595. ورقمه (1853)، قال الألباني في صحيح الجامع (٥٢٣٩): صحيح.