سؤال من الأخ ” ب. ش. من الجزائر يقول: هناك شخص عليه ديون واستمر طوال أيام السنة في جمع المال وادخاره؛ لإكمال المبلغ لسداد دينه، وقد بلغ المبلغ المدخر لسداد الدين النصاب، وحال عليه الحول، هل تجب الزكاة في هذا المبلغ؟

زكاة من عليه دين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالأصل أن في المال حقًا لله، وقد أمر الله نبيه ورسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- باستيفاء هذا الحق طوعا أو كرها فقال جل في علاه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}، [التوبة:103]، فدل هذا على وجوب تطهير المال، وتزكية صاحبه، وأنه لا طهارة للمال إلا بهذا، واستمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ الزكاة من أصحاب المال حتى توفاه الله، واستمر بعده خلفاؤه الراشدون، فلما ارتدت بعض قبائل العرب عن دفع الزكاة؛ ظنا منهم أنها خاصة بالرسول -عليه الصلاة والسلام-، قال أبوبكر -رضي الله عنه- قولته المشهورة: “واللَّهِ لأقاتِلنَّ من فرَّقَ بينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فإنَّ الزَّكاةَ حقُّ المالِ، واللَّهِ لو مَنعوني عَناقًا كانوا يُؤدُّونَها إلى رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، لقاتَلتُهُم على مَنعِها”([1]).

وقد قسم الله -عزوجل- الزكاة، وبين أصحابها، في قوله تقدس اسمه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، [التوبة:60]، وفي هذا التقسيم والفرض دلالة كبرى على أهمية الزكاة، ودورها وأثرها في حياة الناس، ذلك أن هذه الزكاة تؤخذ – كما ذكر- طوعا أو كرها، هذا هو حق الله، وهو الأولى والأعظم في الوفاء به، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمرأة التي نذرت أن تحج بقوله: ” فدَينُ اللَّهِ أحقُّ أن يُقضَى”([2]).

وقد أعطى الله حقه لطائفة من عباده، وهم الفقراء والمساكين، فهؤلاء لهم حق يتعلق بالزكاة، لإطعامهم بسبب فقرهم ومسكنتهم والمفترض أنهم لا يتنازلون عن هذا الحق بحكم حاجتهم، والسؤال هو عما إذا كان المدين يوفي دينه للدائنين أم يدفع زكاته وهذا هو مدار سؤال الأخ السائل.

هذا في عموم المسألة، أما سؤال الأخ عما إذا كان على المدين زكاة فقد تباينت آراء الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال هي:

القول الأول: لا يمنَعُ من عليه دَّينُ مِن وُجوبِ الزَّكاةِ، وهذا مذهبُ الشافعيَّة([3])، والظَّاهِريَّة([4])، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ([5])، واختاره أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سلَّامٍ([6]).

واستدلوا من الكتاب بقولُ الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، [التوبة: 103].

وجه الدَّلالة: أنَّ عُمومَ النصِّ يدلُّ على وجوبِ الزَّكاةِ في المالِ، سواءٌ كان عليه دَينٌ أو لم يكُنْ([7]).

وقالوا بأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يبعَثُ العمَّالَ الذين يقبِضونَ الزَّكاةَ مِن أصحابِ المواشي، ومِن أصحابِ الثِّمارِ، ولا يأمُرُهم بالاستفصالِ هل عليهم دَينٌ أم لا؟ مع أنَّ الغالِبَ أنَّ أهلَ الثِّمارِ عليهم ديونٌ في عهدِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ مِنْ عادَتِهم أنهم يُسْلِفونَ في الثِّمارِ السَّنةَ والسَّنتينِ، فيكون على صاحِبِ البُستانِ دَينُ سَلَفٍ، ومع ذلك كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يخرِصُ عليهم ثمارَهم، ويُزَكُّونَها([8]).

القول الثاني: لا تجب على المدين الزكاة، والدَّينُ عذر يسقط الوجوب وهو مذهب الحنفية([9])، والحنابلة([10]).

وقالت المالكية: أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة دون الظاهرة([11]).

واستدل القائلون بعدم وجوب الزكاة على المدين بأن النـبي -صلى الله عليه وسلم- أوجب الزكاة على الأغنياء، وأمرهم بأدائها للفقراء، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: “أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم”([12])، والمدين محتاجٌ لقضاء دينه كحاجة الفقير إلى الزكاة، فلم يتحقق فيه وصف الغنى الموجب للزكاة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا صدقة إلا عن ظهر غنى”([13])، بل تتحقق فيه وصف الفقر المجيز لأخذ الزكاة؛ لكونه من الغارمين([14]).

والراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بوجوب الزكاة على المدين؛ لأنها حق لله، وحقه أولى بالوفاء، من وفاء دين فرضه المدين على نفسه، وحق الزكاة لا يقبل الانتظار لتعلقه بحاجات الفقراء والمساكين وهي حاجات لا يقبل حلها التأجيل، أما حق الدائنين فيقبل الانتظار لأن الله عزوجل أمرهم بالانتظار في قوله جل في علاه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ}، [البقرة:280].

فالحاصل: -والله -تعالى- أعلم. – وجوب الزكاة على المدين.

والله -تعالى- أعلم.

 

[1] أخرجه البخاري (7284، 7285)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، والنسائي (3093)، وأحمد (117) واللفظ له.

[2] أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148).

[3] ((المجموع)) للنووي (5/ 344)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/309)، ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) العمراني (3/147).

[4] ((المحلى)) (4/219) رقم (695).

[5] ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/309).

[6] قال أبو عبيد: (يَذهَبُ الآخَرُ إلى أنَّها وإن كانت كذلك، فإنَّها مالٌ من مالِه يملِكُه، فجعلها مكان دَينِه، ورأى أنَّ عليه زكاةَ الألفِ العَينِ. وهذا عندي هو القول؛ لأنه السَّاعةَ مالكٌ لزيادة ألفٍ عينٍ على مبلغِ دَينه، ألا ترى أنه لو لم يكُنْ له الألفُ كان لغريمه أن يأخُذَه بالدَّينِ حتى تباعَ العروضُ له؟). ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 536، 537).

[7] ((المحلى)) لابن حزم (4/220) رقم (695).

[8] ((المحلى)) لابن حزم (4/220) رقم (695)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/132)،

[9] ” الهداية”(2/129).

[10] ينظر: المغني 4/266، الشرح الكبير مع الإنصاف 6/336.

[11] ” الذخيرة للقرافي 3/”43″وينظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف1/407، حاشية العدوي1/473.

[12] رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1395) وأطرافه (1458، 1496، 2448) ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم: (19). وكلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[13] رواه البخاري تعليقاً، في كتاب الوصايا باب تأويل قوله تعالى: (من بعد وصية …) وأحمد (2/230)، وأخرج البخاري نحوه أيضاً في كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم: (1426)، ورواه مسلم كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم: (1034) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لكن بلفظ: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ).

[14] ينظر : بدائع الصنائع 2/12،والمغني 9/322،