الإخلاص هو تنقية الشيء وتصفيته، يقال: أخلص الإنسان الشيء أصفاه ونقاه من شوبه، فيقال: أخلص الرجل لأخيه الحب والنصيحة، وأخلص لله دينه، أي ترك الرياء فيه([1]).
وقد عظم الله أمر الإخلاص في العبادة، وأوجب نقاءها، لتكون خالصة له وحده دون سواه. ولكي يكون العباد على علم ويقين بهذا الأمر بيَّنه لهم على لسان نبيه ورسوله محمد r في آيات عدة، منها قوله -عز وجل-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر: 2]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} [الزمر: 11]. وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
وهذا الأمر يقتضي فرض المأمور به على العباد، ومن ثم محاسبتهم عليه حسب فعلهم أو تركهم له، ولكي يكون المأمور به -الإخلاص- أبلغ وأعم قال عز وجل: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]. وهذا في لفظه ومعناه موجب للاستغراق ومستلزم للحصر، فتبين منه أن الدين هو الذي أخلصه العباد لله وحده فلم يشركوا معه فيه أحد، ولهذا بطل عمل الذين يعبدون الأوثان والأصنام وغيرها مع أن هدفهم من عبادتهم لهم الشفاعة لهم عند الله، فقال تعالى في الآية نفسها: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فلم تنفعهم هذه العبادة مع أنهم كانوا يبتغون بها التقرب إلى الله.
والإخلاص من دواخل النفس وخفاياها، فلا يعلمه إلا الله وحده لقوله عز وجل: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [آل عمران: 92]. وقوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} [غافر: 19]. وفي هذا قول رسول الله r: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إلَه إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه)([2]). وقوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([3]). وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)([4]).
فإذا أخلصت النفس العمل لله كان ذلك سياجًا وحصنًا لها من الشرور، وفي مقدمتها شر الشيطان ووساوسه وإغوائه، ولهذا استثنى إبليس العباد المخلصين من إغوائه بسبب عدم قدرته عليهم، فلما طلب من الله أن ينظره إلى يوم البعث استجاب الله لطلبه، فأقسم بعزة الله أنه سيغوي جميع العباد ما عدا المخلصين منهم، وذلك فيما حكاه الله عنه بقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [ص: 28-38].
وتحقيق الإخلاص يستلزم عدة شروط منها: طاعة الله مع تعلق القلب به، وهذا يقتضي إخلاص العبادة له وحده طمعًا في رحمته ومغفرته، لأن أخطر ما على العبد في عمله مخالطة هذا العمل بأمر من أمور الدنيا يؤدي به إلى الرياء دون أن يشعر، فيكون ممن قال تعالى فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 301-401]. فإذا لم يتعلق قلب العبد بالله امتزج عمله بشوائب الرياء، وهذا أخفى في القلب من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد في حديث أبي موسى أن رسول الله r خطبهم ذات يوم، وقال: (يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل)([5]).
ومسألة الرياء من أخطر ما يواجه العبد في عبادته، لأنه مناقض للإخلاص محبط للعمل، فلما سئل رسول الله r عمن يصنع المعروف ويحب أن يحمد ويؤجر، نزل عليه قول الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 011]. وفي حديث معاذ بن جبل أن رسول الله r قال: (إنّ يسير الرياء شرك)([6]). وفي حديث أبي موسى قال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)([7]).
وفي هذا السياق ثمة سؤال يعرض للكثير من الناس، وهو الخوف من الرياء في عمله، فربما ترك بعض العمل خشية الرياء وقول الناس عنه، وهذا من وساوس الشيطان، ليصده عن فعل الطاعة؛ فإذا عرف العبد من نفسه مدى إخلاصه وتعلقه في عبادته بالله عز وجل فلا يهتم بهذه الوساوس، ولا بمن يتقول عنه أو عليه؛ لأن ترك العمل لأجل الناس رياء، والمعيار في الإخلاص أن تكون العبادة في السر والجهر سواء.
ومن هذه الشروط ترك الشهوات المحرمة، التي تنسي العبد مراقبة الله والخشية منه وإخلاص العبادة له، ومن ذلك الربا وأكل حقوق الناس بالباطل والغش في المعاملات، مما يؤدي إلى قسوة القلوب وعدم تجردها وإخلاصها بسبب ما ران عليها من خبائث المكاسب، كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون} [المطففين: 41].
ومنها التجرد من حب الدنيا وليس المراد هنا الاستكانة والانقطاع عن العمل، كما قد يفعل الغفل والدراويش الذين يزعمون أن الآخرة لا تطلب إلا بمثل هذا، وإنما المراد ترك أطماع الدنيا واتباع شهواتها وأهوائها والتباهي بها، واستفراغ كل الجهد فيها والتنازل عن الثوابت والقيم بسبب حبها ونحو ذلك، مما يفعله من غفلت قلوبهم عن الحكمة من خلقهم. أما طلب الدنيا بوصفها زينة في الحياة الدنيا ووجه من وجوه الخير، فهو مما يحث عليه الدين ويأمر به، كما قال عز وجل: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 16]. وهذا الاستعمار لا يكون إلا بالعمل وطلب الدنيا مع التوازن في عمل العبد بين ما يحتاجه لدنياه وما يحتاجه لدينه، كما قال عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 64]. وقال في هذا التوازن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لأخراك كأنك تموت غدًا([8]).
ومن شروط الإخلاص الاستقامة على العمل؛ ذلك أن تعلق القلب بالله يجعله دائم الصلة به، ولا تتحقق الاستقامة إلا للذين عرفوا أن الدنيا مرحلة موقوتة يعبرون بها إلى مرحلة دائمة، فيستقيمون على عبادتهم وإخلاصهم في مرحلتهم الأولى حتى يلقوا ربهم، وفي هذا قال عز وجل لنبيه ورسوله محمد r وهو يأمره بالدعوة: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [الشورى: 51]. كما قال عز ذكره في مدح المستقيم على طاعته: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون} [فصلت: 03 -13].
وخلاصة المسألة: أن الله عظَّم أمر الإخلاص في العبادة لتكون خالصة له دون سواه. وقد بيَّن ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله محمد r. والإخلاص من دواخل النفس وخفاياها فلا يعلمه إلا الله، وتحقيقه يقتضي عدة شروط: منها طاعة الله مع تعلق القلب به طمعًا في رحمته ومغفرته، لأن أخطر ما على العبد في عمله مخالطة هذا العمل بأمر من أمور الدنيا يؤدي به إلى الرياء. ومن هذه الشروط ترك الشهوات المحرمة التي تنسي العبد مراقبة الله والخشية منه وإخلاص العبادة له، ومن ذلك الربا والطمع وأكل حقوق الناس والغش في المعاملات.
ومن هذه الشروط التجرد من حب الدنيا بترك أطماعها وشهواتها، وأن يكون الطلب لها بوصفها زينة في الحياة الدنيا، ووجها من وجوه الخير فيها. ومن هذه الشروط الاستقامة على العبادة؛ لأن تعلق القلب بالله سيجعله دائم الصلة به والإخلاص له، والمعيار في الإخلاص أن تكون عبادته في سره وجهره سواء.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، فتح الباري ج1 ص 332.
([3]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللهr، فتح الباري ج1 ص15، برقم (1).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص6574-6573، برقم(.2564 )
([5]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج4 ص 403، قال الألباني في صحيح الترغيب (٣٦): حسن لغيره.
([6]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب من ترجى له السلامة من الفتن، سنن ابن ماجة، ج2 ص1320 0231 – 1231، برقم (9893)، وأخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بغير الله، سنن الترمذي، ج4 ص 39-49، برقم (5251)، قال الألباني في ضعيف ابن ماجة (796): ضعيف.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فتح الباري ج 6 ص 33 – 43، برقم (0182).
([8]) مسند الحارث ابن أبي أسامة، ج2 ص983، وإتحاف الخيرة المهرة، لنور الدين الهيتمي ج7 ص251، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (٨(: لا أصل له مرفوعًا.