سؤال من الأخ/ إبراهيم نويري من الجزائر يقول فيه: تضاربت آراء الفقهاء والمجتهدين حول فوائد الودائع البنكية؛ فهناك من يبيحها، وينفي عنها شبهة الربا، ويخرجها من إطار فوائد القروض البنكية، وهناك من يلحقها بهذه الأخيرة، ويرى أنها هي الأخرى حرام، ثم يقول:‏ علمًا بأن الودائع البنكية، التي نتحدث عنها هي ‏ودائع في بنوك ربوية، ويأمل الأخ السائل توضيح مدى مشروعية هذه الودائع في بلد لا توجد فيه بنوك إسلامية.

حكم الإيداع في البنوك في بلد لا توجد فيه بنوك إسلامية

والجواب: ‏أن الناس قد تعارفوا على تسمية المال الذي يضعه صاحبه في البنك (دون أخذ فائدة عنه) أنه وديعة، وعلى تسمية المال الذي يضعه في البنك (مع أخذ فائدة عنه) بأنه قرض، وهذه التسمية بالنسبة للوديعة مخالفة لمعنى الوديعة في الشرع الإسلامي.

فمن أحكامها:‏ أنها أمانة تحفظ بعينها لدى المستودَع، فإذا تلفت لا يضمنها ما لم يكن متعديًا عليها، ويكون تلفها من نصيب صاحبها.

ومن هذه الأحكام:‏ أن ملكيتها تبقى على ذمة صاحبها، ولا تنتقل إلى المستودَع، بل تظل أمانة عنده.

ومن هذه الأحكام: أنه لا يحق للمستودع الانتفاع بها، بل يبقيها عنده إلى حين طلب صاحبها لها([1]).

والمال الذي يضعه صاحبه لدى البنك لا يعده البنك أمانة يحتفظ به بعينه، وإنما يضعه مع أمواله، ويستخدمه في عملياته المصرفية، ويلتزم برد مثله حين طلبه، وهذا مغاير لأحكام الوديعة في الشرع الإسلامي، فالتكييف الصحيح أن المال الذي يضعه صاحبه لدى البنك يعد قرضًا (سلفًا)؛ لأنه يضمنه في ذمته بحسبه يتصرف فيه، ويلتزم برد مثله دون دفع فائدة عنه، وهذا هو حال من يودع ماله لدى البنك دون طلب فائدة عليه، فهو في مفهومه وديعة، ولكنه في تكييفه قرض حاله حال المال الذي كان يتعاطى فيه عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، فقد كان أصحاب الأموال يأتون له بالمال، ويريدونه وديعة عنده، فيقول لهم:‏ هو (سلف)؛ لأنه أحسن لهم، فقد ورد في صحيح البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: “لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: ‏يا بنيَّ! لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأُقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همِّي لَدَيْنِي، أفترى يُبْقِي دَينُنا من مالنا شيئا؟، فقال: يا بني! بع مالنا، فاقض ديني، وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه -يعني بني عبد الله بن الزبير، يقول:‏ ثلث الثلث-، فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاءِ الدين فثلثه لولدك. قال هشام:‏ وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير -خبيب وعباد-، وله يومئذ تسعة بنين، وتسع بنات، قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه، ويقول:‏ يا بني! إن عجزتَ عن شيء منه فاستعن عليه مولاي. قال:‏ فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت:‏ يا أبةِ من مولاك؟، قال:‏ الله. قال: ‏فو الله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت:‏ يا مولى الزبير! اقض عنه دينه، فيقضيه. فقتل الزبير -رضي الله عنه-، ولم يدع دينارًا ولا درهمًا، إلا أرضين، منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر. قال: ‏وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال، فيستودعه إياه، فيقول الزبير:‏ لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة([2])، قال الإمام ابن حجر: “لا، ولكنه سلف..أي: ما كان يقبض من أحد وديعة إلا إن رضي صاحبها أن يجعلها في ذمته،  وكان غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع، فيظن به التقصير في حفظه، فرأى أن يجعله مضمونًا، فيكون أوثق لصاحب المال، وأبقى لمروءته. زاد ابن بطال: ‏وليطيب له ربح ذلك المال. قلت: ‏وروى الزبير بن بكار من طريق هشام بن عروة أن كلا من عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، ومطيع بن الأسود، وأبى العاص بن الربيع، وعبد الله بن مسعود، والمقداد بن عمرو، أوصى إلى الزبير بن العوام([3]).

وينبني على ما سبق أن المال الذي يدفعه صاحبه إلى البنك لحفظه يعد قرضًا، رغم تسميته له بأنه وديعة، والقاعدة في هذا أن كل قرض جر منفعة فهو ربا([4])، فإذا أودع صاحب المال ماله لدى البنك، وطلب عنه فائدة دورية أو سنوية قليلة أو كثيرة، أصبح متعاطيًا للربا في صوره الواضحة، وإذا كان سلف الأمة مجمعًا على تحريم الربا في صورتيه المعروفتين: ربا النسيئة، وربا الفضل، فإن مَنْ بعدهم مِن الأمة في الزمان المعاصر مجمعون على أن فوائد الودائع البنكية في صورها المختلفة محرمة، ولا عبرة لمن شذ عن هذا الإجماع، وانساق وراء شبه وحجج واهية.

قلت:‏ ولن يتحقق لأمة المسلمين مبتغاها في الرقى الاقتصادي والاجتماعي إلا إذا تخلصت من الربا في صوره وشوائبه؛ فالعالم لم يتعرض لما تعرض له من الكوارث الاجتماعية والانهيار المالي إلا بسبب تعاطي الربا، وسيطرته على موارده ومؤسساته وأخلاقه، وليس ببعيد عنا ما شهدناه في المدة الماضية من انهيار الكثير من المؤسسات المالية من بنوك وشركات ومؤسسات اقتصادية ومالية، لا يزال العالم يعاني من آثارها وتبعاتها المتمثلة في القروض الفاحشة، وغلاء الأسعار، وتوغل الفقر، واستيطانه في العديد من بلاد العالم، ولن يستطيع أحد مهما كانت طاقاته وموارده وقواه أن ينجو من هذه الأخطار إلا بعد أن ينجو من الربا، ويستجيب لقول الحق – تبارك وتعالى – في قوله المبين: ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279-278].

وخلاصة ما ذكر: ‏أن الناس قد تعارفوا على تسمية المال الذي يضعه صاحبه في البنك (دون أخذ فائدة عنه) أنه وديعة، وعلى تسمية المال الذي يضعه في البنك (مع أخذ فائدة عنه) بأنه قرض، وهذه التسمية بالنسبة للوديعة مخالفة للمعنى الشرعي، فللوديعة عدة أحكام، منها: أنها أمانة تحفظ بعينها لدى المستودع، وملكيتها تبقى على ذمة صاحبها، ولا يحق للمستودع الانتفاع بها، وهذا يخالف ما يجرى في البنك، فهو لا يعتبر المال المودع لديه أمانة يحفظها بعينها، بل يخلطه مع أمواله، ويستخدمه في عملياته، ويلتزم برد مثله حين طلبه، فالتكييف الصحيح أن المال الذي يضعه صاحبه في البنك دون أخذ فائدة عنه يعتبر قرضًا، والأصل في الشرع أن كل قرض جر منفعة فهو ربا، وكما أجمع سلف الأمة على أن ربا الفضل وربا النسيئة محرمان، فإن خلف الأمة مجمعون على أن فوائد الودائع في صورها المختلفة محرمة، ولا عبرة لمن شذ عن هذا الإجماع.

والله -تعالى- أعلم.

 

([1])  ينظر: تكملة فتح القدير ج 7 ص 882، والفواكه الدواني ج 2 ص 581، وروضة الطالبين ج 6 ص 423، وكشاف القناع ج 4 ص661.

([2])  أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا مع النبي-صلى الله عليه وسلم-وولاة الأمر، فتح الباري ج 6 ص 262-362، رقمه (9213).

([3])  فتح الباري ج 6 ص 266.

([4])  زوائد مسند الحارث للهيثمي ص 141-142، ونصب الراية للزيلعي ج 4 ص 130، والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر ج 1ص 411، ضعفه الألباني في إرواء الغليل، (١٣٩٨).