إن اختصاص الإنسان بحقه أو حقوقه المالية أمر مقرر في الشرع الإسلامي، وحق التأليف يعد نوعًا أو جزءًا من هذه الحقوق، فهو في شرعنا -وإن لم يكن منصوصًا عليه بالاسم- معلوم بالضرورة من قواعد الشريعة، ونصوصها، ومقاصدها ودلالاتها، وماليته آتية من فهم ما يؤدي إليه هذا الحق من منفعة مادية لمؤلفه؛ فالكتاب وما في حكمه يعد سلعة تباع وتشترى كأي سلعة أخرى، وهو بالمعنى القاطع حق لصاحبه، وقد حمت شريعة الله هذا الحق إن كان تأليفًا أو ابتكارًا أو إبداعًا، ويخرج سند هذا الحق في القواعد الآتية:
– قاعدة المصالح المرسلة:
ومن أهم أركانها: جلب المصالح، ودرء المفاسد، وأساس المصالح حفظ الأركان الخمسة الضرورية للحياة، وهي: الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل، وأساس درء المفاسد دفع كل ما يضر الناس أفرادًا أو جماعاتٍ، سواءٌ كان الضرر المراد دفعه ماديًّا أو خلقيًّا، وتقتضي هذه القاعدة في ركنيها -جلب المصالح، ودرء المفاسد- حفظ حق المؤلف ومن في حكمه، في ماله المترتب من جهده وعمله؛ لأن صون ماله من الضروريات الخمس، كما أن هذه القاعدة تقتضي درء التعدي عليه، من باب أن ذلك مفسدة يجب درؤها عنه في إطار هذه القاعدة، وإلا أصبح من السهل تعدي السُّرَّاقِ والمنتحلين على كل جهد لغيرهم، فينشأ عن ذلك الخلاف، فتسوء أحوال الناس، ويختل تعاملهم، وتضطرب علائقهم، وذلك مما يتعارض كلية مع قواعد الشريعة ومقاصدها.
– قاعدة احترام الحق العام للإنسان أيًّا كان مسماه، شخصيًّا أو ماليًّا أو غير ذلك:
وقاعدة هذا الحق عريضة في الشريعة الإسلامية، لا يتسع المقام لبسطها، وقد حرم الله -عز وجل-التعدي على هذا الحق في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، كما حرم ذلك رسوله-عليه الصلاة والسلام-في قوله في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.. الحديث)([1])، ولا يُستثنى من هذا الحق إلا ما كان محرمًا أو غير مباح في ذاته، كالخمر، أو الميتة، أو سائر الأعيان المحرمة في ذواتها أو أوصافها.
وسرقة الكتب والمصنفات مما عُرف في الماضي، وقد أُلفت في ذلك الكتب، وشاع خبر السرقة، فمِنْ متَّهِمٍ لغيره بسرقة كتبه، ومن مدافع عن نفسه بنفي هذه التهمة، وممن ذكر هذه السرقة: الإمام السيوطي، فقد ألف كتابًا سماه “البارق في قطع يمين السارق”، قال في أوله: “الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، السارقون في العلم ثلاثة أقسام:
الأول: سراق الحديث، وهم مجروحون بذلك بإجماع أهل الحديث، وطبقتهم تلي طبقة الوضاعين، وقد أدى الأمانةَ إمامُنا الشافعيُّ رأس المؤتمنين، فروى حديثًا في مسنده من حديث مالك، لم يسمعه منه عن شيخ عن شيخ عن شيخ عن مالك بواسطة ثلاثة شيوخ”.
الثاني: سراق التصانيف، ثم يقول: “وقد اقتديت بهؤلاء، وعملت مقامة سميتها الفارق بين المصنف والسارق، بسبب رجل استعار من تلامذتي أربعة كتب من مصنفاتي، وهي: كتاب المعجزات والخصائص الكبرى، وأنموذج اللبيب في خصائص الحبيب، وكتاب مسالك الحنفا في والدي المصطفى، وكتاب طي اللسان عن ذم الطيلسان”([2]).
ثم ذكر السيوطي ما ذكره الإمام ابن حجر بخطه فيمن أخذ تصنيف غيره مطالعةً، فادعاه لنفسه، فزاد فيه قليلًا، ونقص منه، كما ذكر قصة مهذب الدين الخيمي مع نجم الدين بن إسرائيل، الذي سرق قصيدة الأول، وقد تحاكما إلى الشيخ عمر بن الفارض، فحكم هذا على نجم الدين بن إسرائيل بالسرقة([3]).
– قاعدة تحريم السرقة في كل مظاهرها:
وقد تعرض فقهاؤنا -رحمهم الله – بالنص صراحة على أن سرقة الكتب تعد في حكم سرقة الأموال، بوصفها مالًا منقولًا، يمكن إحرازه، ونقله، والتصرف فيه:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يرى الإمام أبو يوسف وجوب حكم السرقة في سرقة المصحف أو أي صحيفة فيها حديث أو علوم عربية أو شعر، إذا كانت قيمة المسروق عشرة دراهم، وحجته في ذلك: أن الناس يدخرون الكتب والمصاحف الكريمة، ويعدونها من نفائس الأموال، وقد خالف الإمام أبو يوسف بذلك إمامَه أبا حنيفة، الذي لا يرى هذه العقوبة في سرقة المصحف، أو أي صحيفة فيها حديث أو علوم أو شعر، وحجته في ذلك: أن المصحف الكريم لا يُدخر أو يقتنى للتمول، بل للقراءة، كما أنه يقصد من تمول الصحائف الأخرى معرفة الأمثال والحكم، ولا يقصد بها التمول، فلا يعد ذلك سرقة لها([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: وجوب حكم السرقة لمن يسرق المصحف، وذلك بحسبه مالًا مملوكًا يجوز بيعه([5]).
أما عند الإمام الشافعي: فهذا الحكم واجب في كل مال، ما لم يكن هذا المال محرمًا، وتعد الكتب من الأموال، فإن كان منها ما يحرم الانتفاع به فيقوَّم الورق والجلد، فإن بلغ نصابًا وجب فيه حكم السرقة([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد قولان، أحدهما: وجوب حكم السرقة في سرقة المصحف، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد حين سئل عمن سرق كتابًا فيه علم؛ لينظر فيه، فقال: كل ما بلغت قيمته ثلاثة دراهم ففيه القطع؛ لعموم آية السرقة، وقد ذكر الإمام ابن قدامة عدم الخلاف بين الأصحاب في وجوب هذا الحكم في سرقة المصحف. أما القول الثاني: فلا يوجب العقوبة فيه([7]).
– قاعدة الأمانة المفترضة:
الأمانة في مفهومها الشامل تقتضي ألا يخون أحدٌ آخرَ؛ فالمؤلف حين يضع مؤلَّفه للبيع، أو لمجرد المطالعة في مكتبة عامة، أو يقوم بإهدائه لأيٍّ كان، يُعَدُّ بفعله هذا قد أودعه تحت مظلة الأمانة المفترضة في كل من اقتناه، أو اطلع عليه، فمن خان هذه الأمانة بالتعدي على جزء أو أجزاء منه لفظًا أو كتابةً أو رسمًا دون أن يشير إليه، يعد خائنًا للأمانة المفترضة فيه، ولا يُعْفَى من هذه الخيانة إلا إذا أشار إليه نصًّا، ومصداق ذلك قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [الأنفال: 27]، ومصداقه -أيضًا- قول رسول البشرية محمد -ﷺ-: (أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) الحديث([8]).
وفي كلام الإمام ابن القيم عن الحيل وتحريمها إشارة إلى أن من أصحابها “السراق على أخذ أموال الناس، وهم أنواع لا تحصى، فمنهم السراق بأيديهم، ومنهم السراق بأقلامهم، ومنهم السراق بأمانتهم، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد، وهم في الباطن بخلافه”([9])، وبهذا ساوى -رحمه الله – بين هؤلاء؛ لتماثل أفعالهم في خيانة الأمانة.
– قاعدة وجوب الصدق وتحريم الكذب:
وهذه القاعدة تقتضي حكمًا أن يصدق القائل في قوله، فلا ينسب لنفسه ما ليس له فيه جهد ولا عمل ولا علم، فإن فعل ذلك عد كاذبًا، والكذب من أنواع النفاق، وهذا من أقبح الأفعال، وأشدها نكرًا؛ لأنه حين يكذب في نسبة مؤلَّفٍ إلى نفسه، وهو ليس له، فقد أتى منكرين: سرقة حق غيره، ثم نسبته إلى نفسه، فكانت عقوبته مضاعفة، وقاعدة الصدق، وتحريم الكذب مما أكده الله -عز وجل-في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين، أما في كتابه فقوله -عز من قائل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119]، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب} [غافر: 28]، وأما رسوله فقال -عليه الصلاة والسلام-: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا)([10]).
– قاعدة التوثيق والإسناد:
إن توثيق الآجال في الأموال والديون، وإسناد الحق إلى من يستحقه، مما عرفه الإسلام، وأمر به؛ لحفظ الحقوق، ودفع التوهم والنسيان بين المتعاملين، والأصل فيه الكتاب والسنة وعمل السلف، أما الكتاب فقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ} [البقرة: 282]، وفي مدلول هذه الآية قال نفر من الفقهاء: إن الكتابة للوجوب في المبايعات والقروض؛ لئلا يقع نسيان أو جحود([11])، وقال آخرون: الأمر للندب؛ لحفظ الأموال، وإزالة التريب([12]).
والأمر بالكتابة -أيًّا كان القول به وجوبًا أو ندبًا- يرتب واجبًا على من يعرف الكتابة إذا كان عدلًا أن يكتب ما يأمره به المتعاملون، وهذا الواجب عليه يتحول إلى واجب مضاعف إذا لم يكن ثمة من يقوم بالكتابة بينهم، وهذا هو قول الله -عز وجل-: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ} [البقرة: 282].
وأما السنة: فما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- قال في هذه الآية: (أول من جحد آدم -عليه السلام- حين وهب لداود أربعين سنة من عمره، فكتب الله عليه كتابًا، وأشهد عليه ملائكته، فلما حضرته الوفاة قال: لقد بقي من عمري أربعون سنة، فقيل له: إنك وهبتها لداود، فقال: ما وهبت لأحد شيئا)([13]).
وأما فعل السلف -وخاصة أئمة الحديث- فقد بذلوا جهدًا في توثيق سنة رسول الله وإسنادها رواية بعد رواية، وسندًا بعد سند، وقد وضعوا لذلك علمًا في الحديث لا يوازيه علم آخر في أي حضارة.
وفي إطار قاعدة التوثيق والإسناد هذه فإن من حق المؤلفين والمبتكرين والمبدعين الاختصاصَ بمؤلفاتهم ومبتكراتهم وإبداعاتهم، والاستعداءَ على من يتجاوز هذا الحق.
قلت: هذا من حيث العموم في المسألة، أما سؤال الأخ السائل فالأصل أنه يختص بحقه في قاعدة البيانات التي أشار إليها، طالما أنها من جهده وعمله، وليس من حق الآخرين أخذ هذه البيانات وما فيها من معلومات جزءًا أو كلًّا إلا بإذنه.
وخلاصة المسألة: أن اختصاص الإنسان بحقه أو حقوقه المالية أمر مقرر في الشرع الإسلامي، وأن حق التأليف يعد نوعًا من هذا الحق، وهو معلوم بالضرورة من قواعد الشريعة ومقاصدها ودلالاتها، وماليته آتية من فهم ما يؤدي إليه هذا الحق من منفعة مادية لمؤلفه.
ويخرج سند هذا الحق في القواعد الآتية:
– قاعدة المصالح المرسلة.
– قاعدة احترام الحق العام للإنسان أيًّا كان مسماه، شخصيًّا أو
ماليًّا أو غيرهما.
– قاعدة تحريم السرقة في كل مظاهرها.
– قاعدة الأمانة المفترضة.
– قاعدة وجوب الصدق، وتحريم الكذب.
– قاعدة التوثيق والإسناد.
والأصل أن الأخ السائل يختص بحقه في قاعدة البيانات طالما أنها من جهده وعمله، وليس من حق الآخرين أخذ هذه البيانات جزءًا أو كلًّا إلا بإذنه.
والله أعلم.
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب “ليبلغ الشاهد الغائب”، فتح الباري ج1 ص238، رقم الحديث 104، وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي-ﷺ-، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم ج4 ص254-255، رقم الحديث 147.
([2]) نقلًا عن مجلة عالم الكتب ص742-743، العدد 4 / 1402هـ، مقال للأستاذ/ قاسم السامرائي في دراسة مخطوطة “الفارق بين المصنف والسارق” للسيوطي.
([3]) مجلة عالم الكتب، العدد 4/1402هـ، “الفارق بين المصنف والسارق”، للأستاذ/ قاسم السامرائي ص743.
([4]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للإمام الكاساني ج7 ص28، وانظر: شرح فتح القدير، للإمام ابن الهمام ج5 ص371، وحاشية رد المحتار على الدر المختار، للإمام ابن عابدين ج4 ص93.
([5]) المدونة رواية الإمام سحنون ج4 ص418.
([6]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7 ص442، وأسنى المطالب ج4 ص141.
([7]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج10 ص249، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ج10 ص260.
([8]) أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب “حدثنا أبو كريب”، سنن الترمذي ج3 ص564، برقم (1264)، وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، سنن أبي داود ج3 ص290، برقم (3534، 3535)، قال الألباني في صحيح أبي داود، (٣٥٣٥): حسن صحيح..
([9]) إعلام الموقعين عن رب العالمين ج3 ص344.
([10]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم ج8 ص573، برقم (105).
([11]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 ص383، طبع مكتبة الرياض الحديثة.
([12]) الجامع لأحكام القرآن ج3 ص383.
([13]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج1 ص252، قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة، (٥/٤١٤): له شاهد.