الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فظاهر السؤال عن طاعة ولي الأمر الذي يرى الأخ أنه يحارب الله ورسوله بالمعاملات الربوية، ويسهل التعامل بها. وقد اختلف في المراد بأولياء الأمر الذين نزل فيهم قول الله -تعالى-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، فقيل إنهم الحكام، وقيل إنهم العلماء، ويرى الإمام ابن قيم الجوزية أن المراد بهم العلماء والأمراء([1])، ولعل هذا هو الصواب؛ لأن المفترض في العلماء الحفاظ على بيان أحكام الدين كما وردت في كتاب الله، أو في سنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي الإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى- المشار إليه. وكذلك ما أجمعت عليه الأمة، وأن المراد كذلك بأولي الأمر الحكام؛ لمسؤوليتهم عن وحدة الأمة واجتماعها، وعدم تفرقها، والحفاظ على أحوالها حتى لا يطغى قويها على ضعيفها، ولا غنيها على فقيرها، وقد أثبتت وقائع الزمان وأحوال العباد أنه لابد للجماعة من قائد صالح يقودها، ويدفع عنها غوائل السوء، ويحافظ على أنفسها وأعراضها وأموالها؛ فلا خلاف حينئذ أن المراد بأولي الأمر الحكام.
فتبين من عموم الآية وأحكامها أن على المسلم طاعة ولي أمره من الحكام فيما هو مسؤول من أحكام الدين، سواء في العبادات، أو المعاملات، أو فيما يأمر به أولياء الأمور من الحكام، مما يضعون له من الأسباب التي يحفظ أمنه وحياته المختلفة.
وقد شدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على طاعة ولي الأمر في أحاديث كثيرة، منها: قوله: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، فإن له بذلك أجرًا وإن قال بغيره فإن عليه منه))([2]).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه ما يريد وفَى له وإلا لم يَفِ له، ورجل يبايع رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدقه، فأخذها، ولم يعط بها))([3]).
وقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: (بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان) ([4]).
ولما ذكر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغير الولاة قال: ((ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع)) قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ((لا، ما صلوا))([5]).
والأحاديث في وجوب طاعة الحكام وعدم الخروج عليه كثيرة.
أما الإجماع على طاعة ولي الأمر: فقد أجمعت الأمة في سلفها وخلفها على وجوب هذه الطاعة، وعدم الخروج عليه إلا بسبب شرعي، قال الإمام النووي: “لا يجوز الخروج على الخلفاء لمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يغيروا من قواعد الإسلام”([6]).
أما العقل في طاعة ولي الأمر: فإن الأمة -أيَّ أمة– لا بد لها من حاكم يسير أمورها، ويقوم على أحوالها، فيعدل فيها وينصر ضعيفها، ويدافع عنها بحكم ما أوتي من القوة وقبول العباد به، فلو قيل بالخروج عليه لمجرد خطأ منه لأدى ذلك إلى فتن واقتتال، فتخرج كل طائفة وتزعم أن الحق عندها وتزعم طائفة أن الحق معها هي، وعندئذ يفقد العباد معاشهم وأمنهم واستقرارهم، كما حدث في التاريخ في سابقه وحاضره، مما كان له أسوأ الأثر وأشده في قتل الأبرياء والآدميين وتشردهم وضياع أطفالهم ونسائهم، مما ينكأ الجراح ويدمي القلوب.
هذا في عموم المسألة، أما عن سؤال الأخ فلا شك في أن أمر الربا أمر عظيم، وقد حرمه الله على المؤمنين؛ لما فيه من الظلم والإثم فقال -عز ذكره-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 278-279]. فهذا التحريم معلوم للمسلم، والإشكال عن الكيفية الشرعية التي تحفظ المال وتستثمره، ففي الماضي كان المال مجرد عملة معدنية (ذهب، فضة)، وكان هذا المال قليلًا يستطيع صاحبه حفظه في منزله أو في أي مكان آمن، وكان كذلك يستطيع استثماره حسب كميته وقيمته، أما في هذا الزمان فقد أصبح المال يحسب بـ(الترليونات)، فلا يستطيع صاحبه حفظه أو استثماره إلا عن طريق وعاء (المصرف)، ونحن نرى أنه هذا الوعاء غير مناسب، ولكن ما هو الحل لهذا الإشكال؟ والحل لا يكون إلا إذا استطعنا إيجاد بديل يستطيع صاحب المال حفظ ماله واستثماره فيه وفق شرع الله؟ وقد بدأ هذا البديل خطواته بتأسيس المصارف الإسلامية في بعض بلاد المسلمين، ولكن هذا البديل لا يزال غير كاف للاستغناء عن المصارف الربوية الحالية، ولعل العلماء يتحملون مسؤوليتهم ويتابعون مع أصحاب المال هذه الخطوات، ليكون البديل جاهزًا للأجيال المسلمة في حاضرها وقادمها.
أما القول بعدم طاعة ولي الأمر لأنه يسمح للبنوك فهذا القول لا يجوز؛ لأن الخروج عليه من الفتن، والفتنة أشد من القتل، ولأن ولي الأمر يعمل على تيسير أحوال العباد في بلاده، وليس أمامه من وسيلة سوى الأمل في الاستغناء عن هذه البنوك ببدائل شرعية، تحفظ لأصحاب المال أموالهم، فيستثمرونها وهم على ما أمرهم الله به من ترك الربا؛ لما فيه من الظلم والإثم.
والله المستعان.
([1]) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، (2/141).
([2]) أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، برقم: (2957)، (4/50)، ومسلم، كتاب: الإمارة، برقم: (1835)، (6/13).
([3]) أخرجه البخاري، كتاب: الأحكام، باب: من بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا، برقم: (7212)، (9/79)، ومسلم، كتاب: الإيمان، برقم: (108)، (1/72).
([4]) أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، باب: قول النبي سترون بعدي أمورا تنكرونها، برقم: (7056)، (9/47)، ومسلم، كتاب: الإمارة، برقم: (1709)، (6/16).