سؤال من الأخ / أبي عبدالوهاب ـ من الجزائر عن حكم تحنيط الأموات.

حكم تحنيط الأموات من الإنسان والحيوان

الحنوط والحناط: طيب مخلوط، له رائحة طيبة يراد منه تطييب الميت، وتجفيف رطوبته([1])، وفي الحديث أن ثمود (قوم نبي الله صالح) لما استيقنوا العذاب تكفنوا بالأنطاع، وتحنطوا بالصبر؛ لئلا يجيفوا وينتنوا([2]).

وقد عرف التحنيط عند بعض الأمم، وله أسباب كثيرة:

منها: حفظ جثة الميت من البكتيريا، خاصة عندما يتأخر دفنها.

ومنها: ما يرجع إلى أسباب دينية مبنية على الأساطير.

ومنها: ما يرجع إلى تجميل الميت وتزيينه قبل دفنه، وقد عرف المصريون القدماء التحنيط، خاصة الأغنياء والسادة منهم، فاستخدموا لذلك مواد كثيرة كالعسل والملح وزيت الصنوبر.

هذا في الماضى، أما في الحاضر فإن التحنيط ما زال يستهوي بعض الناس، مدفوعين إما بالتأثر بالأساطير القديمة، وإما بسبب تصور مشبع بهذه الأساطير، فقد ورد في وسائل الإعلام أن بعض الأثرياء في أمريكا يوصون بتحنيط جثثهم بمواد معينة؛ رغبة منهم في حفظها؛ اعتقادا منهم أنهم سيعودون إلى الحياة الدنيا مرة ثانية.

وعلى هذا فإن التحنيط نوعان:

النوع الأول: ما أشير إليه في التعريف أعلاه: وهو الحنوط الذي يتكون من روائح عطرية بقصد تطييب الميت قبل دفنه، وله أسباب لعل أهمها: أن يكون الميت على رائحة طيبة، وهو مقبل على ربه وملائكته؛ فهذا التحنيط كان معروفا عند العرب قبل الإسلام، وبعد الإسلام، فلم ينكر عليه، والأصل فيه أن رسول الله -ﷺ- قال: « إذا جمرتم الميت فأوتروا»([3])، وفي رواية أخرى: «جمروا كفن الميت ثلاثا»([4])، وفي مسند الإمام أحمد: «إذا جمرتم الميت فأجمروه ثلاثا»([5])، والمراد التجمير بالطيب([6])، فعلى هذا فإن التحنيط بهذا المعنى مباح، بل هو مطلوب.

أما النوع الثاني من التحنيط: فيقوم على نزع أجزاء من جثة الميت، فهذا محرم؛ لأنه تمثيل به، وإيذاء له، والأصل فيه حديث جابر -رضي الله عنه- قال: خرجت مع رسول الله -ﷺ- في جنازة، فجلس -عليه الصلاة والسلام- على شفير القبر، وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظما، فذهب ليكسره، فقال رسول الله -ﷺ- : «لا تكسر، فإن كسرك إياه ميتا ككسرك إياه حيًّا، ولكن دسه في جانب القبر»([7])، وفي حديث أبي مرثد الغنوي وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -ﷺ- قال: «لا تجلسوا على القبور، فلأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر»([8])، وفي الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته([9]).

فهذه الأحاديث في ألفاظها ومعانيها تدل على وجوب حرمة الميت، وعدم التعرض لجثته بأي نوع من أنواع العبث، وهذا من عظمة دين الإسلام وهديه، وتكريمه للإنسان حيا وميتا، كما قال -عز وجل-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} [الإسراء:70].

وكما يحرم العبث بجثة الإنسان لا يجوز العبث بجثث الحيوان والطيور ونحوها، والعلة في ذلك: أن هذه الجثث توضع للزينة، كوضع جثث الأسود والنمور في مداخل البيوت، ووضع جثث الصقور وغيرها للزينة، فهذا نوع من العبث، وإضاعة للمال، وقد نهى رسول الله -ﷺ- في الحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة عن: «القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال»([10])، ناهيك بأن هذه الجثث المحنطة مما يقع تحت تحريم التصوير المحرم لذوات الأرواح، والخشية من الافتتان بها.

وخلاصة هذه المسألة: جواز تحنيط جثة الميت بالمواد العطرية المعروفة، وتحريم التحنيط بالوسائل التي تنزع أجزاءً من جثته، وتحريم تحنيط الحيوانات والطيور وغيرها من ذوات الأرواح؛ لما في ذلك من التصوير المحرم لذوات الأرواح، والعبث وإضاعة المال في غير ما يجب فيه.

والله تعالى أعلم.

 

([1])    لسان العرب لابن منظور ج 7 ص 278، والمصباح المنير للفيومي ج 1 ص 154، وتاج العروس للزبيدي ج5 ص122.

([2])    أخرجه الحاكم في المستدرك مطولا ج 2 ص 617.

([3])    أخرجه البيهقي في السنن ج 3 ص 405 والحاكم في المستدرك ج1 ص 506، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٤٨١).

([4])  أخرجه أبو يعلى (٢٣٠٠)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند ج 3 ص 331، صحح إسناده النووي في خلاصة الأحكام، (٢/٩٥٦).

([5]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج 3 ص 331، قال الألباني في أحكام الجنائز، (٨٤): صحيح على شرط مسلم.

([6]) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج 1ص 292.

([7]) عون المعبود في شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج 9 ص 24.

([8]) أخرجه مسلم (٩٧١)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب في كراهية القعود على القبر، برقم 3228 و3229.

([9]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ج 3 ص 367، وانظر: عون  المعبود ج 9 ص 24.

([10]) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب قول الله -تعالى-: ﴿لا يسئلون الناس إلحافا﴾، برقم ١٤٧٧، فتح الباري، ج٣، ص٣٩٨.