والجواب: أن هذا الحكم ورد في كتاب الله -عز وجل- وأكثر المفسرين على شمول معناه لكل وجوه الخير؛ ففي تفسير الفخر الرازي قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}. قال المفسرون: يعني الغزاة.. ثم قال: واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}. لا يوجب القصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء، أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} عام في الكل( ). وقال العلامة السعدي: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم أعطي من الزكاة؛ لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل الله( ). وفي المنار: «بعد أن ساق عددًا من الأقوال: قال أما عموم مدلول هذا اللفظ: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} فهو يشمل كل أمر مشروع، أريد به مرضاة الله – تعالى – بإعلاء كلمته، وإقامة دينه، وحسن عبادته، ومنفعة عباده..»( ).
وفي (التفسير المبين) أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} حكم واسع، فكلما كان في هذا السبيل، فهو محل للصدقة، ومن ذلك: بناء المساجد، والمستشفيات، والملاجئ، والمدارس؛ لتعليم القرآن، وسائر العلوم المشروعة، ومن ذلك: النفقة على ذوي المجاهدين، ورعاية أسرهم، ورعاية الأيتام( ). هذا في التفسير.
أما في الفقه: ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} عبارة عن جميع القُرَب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله، وسبيل الخيرات؛ إذا كان محتاجًا( ).
وفي مذهب الإمام مالك: أن المراد بقوله {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ} الغزاة يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء( ).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجوز لطالب العلم أن يأخذ من الصدقة ما يشتري به كتب العلم؛ لمصلحة دينه ودنياه.. وإذا تفرغ قادر على التكسب للعلم أعطي منها.
وقال أبو الطيب صديق حسن خان القنوجي البخاري من علماء الهند: ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيبًا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه..( ). ومن خلال ما ذكر يتبين أن من الفقهاء من يرى أن {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}. يقتصر على الغزاة والرباط في سبيل الله، وقيل: إن المقصود به الحجاج والعمار.
قلت: وقد سبق أن ذكرنا أنه لعل من الصواب شمول هذا الحكم لكل فعل، غايته: نشر شرع الله، وإبلاغ رسالته إلى خلقه، فكما قيل بشمول هذا الحكم للحجاج والعمار، يجوز القول بشموله للدعاة، وإنشاء الملاجئ للأيتام، والمستشفيات، وبناء المساجد، والطرقات، ورعاية المسنين، وما في حكم ذلك من الوسائل التي يحتاجها اليوم الكثير من المسلمين( ).
وينبني على ما ذكر أنه من تفرغ لطلب العلم المشروع، سواء كان علمًا شرعيًّا، أو أي علم تحتاجه الأمة، كالطب، وسائر العلوم الأخرى المشروعة يجوز له الأخذ من نصيب: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}، الذي فرضه الله في قسمته – عز وجل – للزكاة.
ولعل الصواب تقييد هذا الجواز بالحاجة، أما من كان غير محتاج ويقدر على كسب العلم من ماله أو مما توفره له بلاده أو أهله، فالأولى ألا يأخذ من هذا النصيب؛ ليكون عونًا لمن هم في حاجة إليه ممن يشملهم قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللّهِ}.