سؤال من الأخ أبي إبراهيم من الجزائر، يقول فيه: متى تبرأ ذمة المستفتي بالسؤال؟، وكيف يقتنع إذا تعارضت الفتاوى في المسألة؟.

براءة الذمة بين المستفْتِي والمفتي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:  

فظاهر سؤال الأخ عن براءة الذمة بين المستفتي والمفتي، أما المستفتي الذي يسأل عن أمر من أمور دينه فقد أمره  الله -عز وجل-  أن يسأل من يفتيه من أهل العلم في قوله – تعالى- : ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، فإذا سأل المستفتي أحد أهل العلم فقد برئت ذمته، وانتقل عبء الفتوى إلى صاحبها، وهو بلاشك عبء ثقيل.

أما المفتي فله حالتان:

الأولى: إن كان من أهل العلم فقد  أمره الله أن يبلغ رسالة الله إلى عباده؛ فالعلماء ورثة الأنبياء في أداء الرسالة، وقد أمر الله  رسوله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أن يبلغ رسالته إلى عباده في قوله -عز ذكره-: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (المائدة: 67)، وفي حياته -عليه الصلاة والسلام- بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأشهد الخلق في حجة الوداع في قوله-عليه الصلاة والسلام-: «ألا هل بلغتُ»؟ ثلاثًا، فأَجْمَعَ من كان معه في هذه الحجة على أنه بلَّغ الرسالة، ثم أَشْهَدَ اللهَ على ذلك بقوله: «اللهم اشهد»، ولما انتقل-عليه الصلاة والسلام-إلى الرفيق الأعلى انتقل عبء الرسالة إلى أمته، وبالأخص العلماء منهم، فإن بلغوا ما علموه فقد أَدَّوْا واجبهم، وإن نكصوا وتهاونوا عاقبهم الله، وفي هذا قال-عز وجل-: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة: 159)، ولا تبرأ ذمة المفتي إلا إذا كان ما أفتى به مبنيًّا على كتاب الله، وسنة رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم-، وإجماع الصحابة، وما تقضي به أحكام الشريعة في أصولها وفروعها، وكلياتها وجزئياتها، فإذا فعل ذلك فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد؛ كما قال ذلك رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «إذا حَكَم الحاكِمُ فاجتَهَد فأصاب، فله أجرانِ، وإذا حكم فاجتَهَد فأخطأَ، فله أجرٌ»([1])، ومن تعدى حدود الله عامدًا متعمدًا غيرَ مستشهدٍ بما بَيَّنَهُ الله – تعالى- ورسوله، وتجرأ على الفتيا فقد ظلم نفسه، وفي هذا قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: «أجرؤكم على الفتيا أَجْرَؤُكم على النار»([2]).

أما قول الأخ: “كيف يقتنع المستفتي إذا تعارضت الفتوى” فهذا يرجع إليه هو نفسِه، وما يطمئن إليه قلبه؛ لأن تعارض الفتوى وارد، والمجتهد يخطئ ويصيب، فالمهم ما يطمئن إليه القلب. والله – تعالى- أعلم.

الوجه الثاني: السؤال عن ورود نصوص يفيد ظاهرها تكليف الانسان بما لا يستطيعه، مثل قول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «لا تغضب»، وكيف يمكن التوفيق بين هذه النصوص وتلك؟.

والجواب عن هذا: أن الله-عز وجل-لما أرسل رسوله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – أرسله رحمة  للعالمين، فقال -عز ذكره-: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:128)، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وقال-جل في علاه-: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ﴾ (الحشر: 7)، ولم يجعل الله هذه الصفة إلا لعلمه بما عليه رسوله من الرأفة والرحمة بعباده، وعدم تكليفهم ما لا يطيقونه؛ فعلى هذا ليس هناك نصوص في السنة تفيد صراحة أو إشارة إلى تكليف العبد ما لا يطيق، أما الإشارة إلى أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للعبد بألا يغضب فهذا رأفة ورحمة به؛ لأن الغضب قد يؤدي إلى هلاكه، فقد يقتل بريئًا، وقد يطلق زوجته، وقد يؤذي ولده، فالأمر له بعدم الغضب لأنه يملك إرادة، وبهذه الإرادة يستطيع السيطرة على غضبه، والاستعانة على ذلك بغسل وجهه بالماء؛ لأن الغضب من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضبَ أحدُكم فليتوضَّأْ، كما قال ذلك رسول الله-صلى الله عليه وسلم-([3]).

فالحاصل: أن الله-عز وجل- لم يكلف عباده ما لا يستطيعون، كما أن نبيه ورسوله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – لم يكلف العباد بما لا يستطيعون. والله – تعالى- أعلم.

 

[1] – أخرجه أبو داود (٣٥٧٤)، والترمذي (١٣٢٦)، والنسائي (٥٣٨١)، وابن ماجه بعد الحديث (٢٣١٤)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٨٨٦).

[2] – أخرجه الدارمي في سننه (1/69)، ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، (١٨١٤).

[3] رواه الإمام أحمد في “المسند” (29/505)، وأبو داود (4784)، ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، (٤٧٨٤).