سؤال من الأخوين نور الدين… وسليم… من الجزائر عن مدة السفر التي تقصر الصلاة فيه وبدايته؟

مدة السفر الذي تقصر فيه الصلاة

دل الكتاب والسنة والإجماع على إباحة قصر الصلاة في السفر:

ففي الكتاب: قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}([1]). والمقصود بالضرب هنا السفر وشاهده أيضًا قول الله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ}([2]). والقصر من الصلاة تخفيف ركعاتها بحيث تكون الرباعية (الظهر والعصر والعشاء) ركعتان في حال السفر.

فهل القصر يكون في حال الخوف فقط كما هو ظاهر قول الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}([3]). يقول الإمام ابن كثير: (هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية فإنّ في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفار المسلمين مخوفة بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام أو في سرية خاصة وسائر الأحيان

 

حرب للإسلام وأهله والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له)([4]).

وقد سَأَل يعلى بن أمية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن قول الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}([5]). وقد أَمِنَ الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله ﷺ فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)([6]). وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: صلينا مع رسول الله ﷺ بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين([7]). وروي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: (خرجنا مع النبي ﷺ من المدينة إلى مكة فصلّى ركعتين)([8]). وروي عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال: صلى بنا رسول الله ﷺ آمن ما كان بمنى ركعتين([9]). كما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: صليت مع رسول الله ﷺ ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرًا من أمارته ثم أتمها([10]). وروي أيضًا عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: صلى بنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله ﷺ بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان([11]).

فدلت هذه الأحاديث على أن الخوف ليس شرطًا لقصر الصلاة خلافًا لمن قال بذلك([12]).

أما السنة فقد دلت الأخبار المتواترة أن رسول الله ﷺ كان يقصر الصلاة في سفره لحجه وعمرته وغزواته فعن عبد الله بن

 

عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: صحبت رسول الله ﷺ في السفر حتى قبض وكان لا يزيد على ركعتين وعمر وعثمان كذلك([13]). وعن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرًا نقصر الصلاة حتى رجع([14]).

وقال الإمام الترمذي: (وقد صحّ عن النبي ﷺ أنّه كان يُقْصِرُ في السفر، وأبو بكر وعمر وعثمان صدرًا من خلافته. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم (([15]).

وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة في حج أو عمرة أو جهاد فله أن يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتي)([16]).

هذا من حيث جواز قصر الصلاة حال السفر. أما مدة السفر الذي تقصر فيه الصلاة فقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كبيرًا ولهم في ذلك أقوال عدة قيل إنها أحد عشر قولًا، وأشهرها ما عليه الأئمة الأربعة.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يومًا في مكان واحد صالح للإقامة، أتم صلاته ونية الإقامة شرط في هذا، فلو دخل بلدًا ومكث فيها شهرًا أو أكثر؛ لأنتظار قافلته أو قضاء حاجته ولم ينو الإقامة يعد مسافرًا. أما مدة الإقامة فأقلها خمسة عشر يومًا، وقد استدل أصحاب المذهب على ذلك بما روي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين، وكان يقصر الصلاة، وأن ابن عمر -رضي الله عنهما- أقام بآذربيجان شهرًا وكان يصلي ركعتين، وأن علقمة أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر. كما استدلوا بما روي عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه قال: شهدت مع رسول الله ﷺ عام فتح مكة، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين ثم قال لأهل مكة: (صلوا أربعًا فإنا قوم سفر) وكذا ما روي عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنه-م أنهما قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يومًا فأكمل الصلاة، وإن كنت لا تدري متى ترحل فأقصر([17]).

وأما اتحاد المكان فالشرط نية الإقامة في مكان واحد؛ لأن الإقامة قرار، والانتقال يضاده، فإذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يومًا في موضعين، فإن كان مصرًا واحدًا أو قرية واحدة صار مقيمًا. وأما المكان الصالح للإقامة فهو موضع المكث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة والسفينة فليست موضع الإقامة حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يومًا لا يصير مقيمًا بل يعد مسافرًا([18]).

وفي مذهب الإمام مالك: إذا نوى المسافر الإقامة أربعة أيام أتم صلاته؛ استدلالًا بأن رسول الله ﷺ جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة فقام بعد قضاء نسكه، وفي المقدمات لا يزال المسافر يقصر ما لم يمر بموطن يكون له محل إقامة بإجماع أو ينو إقامة أربعة أيام([19]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: مثل ذلك، فإذا قصد المسافر بلدًا، وكان هذا البلد غاية سفره فلا خلاف أنه متى دخل ذلك البلد لم يجز له القصر؛ لأن سفره قد انقطع بدخوله وإن لم ينو المقام فيه، ومثل ذلك ما لو استطاب بلدًا وهو في طريقه فنوى الاستيطان فيه لم يجز له القصر ولزمه أن يتم، أما إذا لم ينته سفره ولا نوى الاستيطان فيه لكن نوى أن يقيم فيه مدة فإن كانت هذه المدة دون أربعة أيام، جاز له القصر وإن نوى مقام أربعة أيام سوى اليوم الذي دخل فيه واليوم الذي يخرج منه لزمه أن يتم، ولم يجز له أن يقصر؛ واستدل الأصحاب على ذلك بما قال به عثمان بن عفان من الصحابة ومن التابعين وسعيد ابن المسيب ومن الفقهاء الإمام مالك([20]).

وفي مذهب الإمام أحمد: إذا نوى المسافر إقامة مطلقة أتم، وكذلك إن نوى مدة (فوق) أربعة أيام أو شك في نية المدة، وقيل: يجوز له القصر.. وإذا أقام لقضاء حاجة قصر، ويعني أنه إذا لم ينو الإقامة ولا يعلم فراغ حاجته (قبل) فراغ مدة القصر فهذه الصورة يجوز فيها القصر بلا خلاف، فإن ظن أن الحاجة لا تنقضي إلا (بعد) مضي مدة القصر فالصحيح من المذهب أنه لا يجوز له القصر، وقيل: يجوز له ذلك([21]).

 

وعلى هذا تباينت آراء الفقهاء بين قول بجواز القصر للمسافر جوازًا محددًا بمدة، وقول بجواز عام تحكمه ظروف المسافر. أما الجواز المقيد فيقول بأنه يجب على المسافر أن يتم الصلاة إذا عزم على الإقامة خمسة عشر يومًا (المذهب الحنفي) أو إذا عزم على الإقامة أربعة أيام (مذهب الإمامين مالك والشافعي) أو إذا عزم على الإقامة أكثر من أربعة أيام (المذهب الحنبلي).

أما الجواز العام فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، ولو أتى عليه سنون، وقد روى الأثرم عن ابن عمر أنه أقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وعن علي أنه قال: يقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غدًا: شهرًا([22]).

ولعل الضابط في هذه المسألة -جوابًا على السؤال- أن المسافر الذي يعلم مدة سفره يجب أن يتم إذا كانت إقامته في سفره أكثر من أربعة أيام، ومثل هذا الطالب الذي حدد سفره بمدة معلومة، أو السائح الذي فرض لنفسه إجازة معلومة أو التاجر الذي يعرف أن مكثه في سفره، يتطلب منه قضاء مدة معلومة، أو الموظف الذي انتدب للعمل خارج بلده مدة معلومة؛ فهؤلاء ومن في حكمهم يعرفون مدة إقامتهم في سفرهم، وعليهم الإتمام بعد مضي أربعة أيام من وصولهم مكان السفر.

أما إذا كان المسافر لا يعلم على وجه التحديد مدة سفره فهذا يترخص له في القصر، ومن ذلك التاجر الذي يذهب إلى بلد ليستورد أو يشتري بضاعة ولا يعرف متى تنتهي مهمته؛ لأن الوقت الذي يتم فيه الشراء أو الإستيراد غير معروف له، وكذلك الذي يذهب خارج بلده إلى مكان لمهمة معينة، ولا يعرف بالتحديد متى تنتهي هذه المهمة؟.

أما بداية السفر الذي تقصر فيه الصلاة -جوابًا على السؤال- فإن الإنسان يعد مسافرًا إذا خرج من عمران المكان الذي يقيم فيه فمن يذهب في طريقه إلى الطائرة أو السفينة أو السيارة يعد مسافرًا.

والله تعالى أعلم.

([1]) سورة النساء من الآية 101.

([2]) سورة المزمل من الآية 20.

([3]) سورة النساء من الآية 101.

([4]) تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير، ج2 ص374.

([5]) سورة النساء من الآية 101.

([6]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (686)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة المسافر برقم (1199)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب سورة النساء، برقم (3034)، ج5 ص227.

([7]) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في التقصير في السفر، برقم (547، 548)، ج2 ص431، أشار أحمد شاكر في مقدمة عمدة التفسير إلى صحته، (١/٥٦٣).

([8]) أخرجه البخاري (١٠٨١)، ومسلم (٦٩٣)، أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كم تقصّر الصلاة، برقم (548)، ج2 ص431-432

([9]) أخرجه البخاري في أبواب التقصير، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، صحيح البخاري ج2 ص35.

([10]) الحديث أخرجه الإمام البخاري في أبواب التقصير، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر، صحيح البخاري، ج2 ص34-35. قيل إن العلة في إتمام عثمان رضي الله عنه هو أن الأعراب قد حجّوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن الصلاة أربعاً لئلا يتوهموا أنها ركعتان. والعلة الثانية أنّه كان إماماً للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته، فكأنّه وطنه، وتأويل آخر أنّه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة، والعلة الرابعة أنه كان قد تأهل بمنى أو (بمكة) والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، وخامس هذه التأويلات أنّه أقام بها ثلاثاً والمقيم غير مسافر، انظر إعلاء السنن للتهانوي، ج5 ص292-293.

([11]) الحديث أخرجه البخاري في أبواب التقصير، باب ما جاء في التقصير، صحيح البخاري ج2 ص35. قيل إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تتم الصلاة في السفر. انظر سنن الترمذي ج2 ص430.

([12]) راجع على سبيل المثال لا الحصر، شرح فتح القدير لكمال بن الهمام ج2 ص27-36، الحاوي الكبير للإمام الماوردي، ج2 ص449 وما بعدها، المحلى بالآثار لابن حزم ج3 ص185-240.

([13]) أخرجه مسلم (٦٨٩)، أخرجه الترمذي في أبواب السفر، باب ما جاء في كم تقصر الصلاة، برقم (548)، ج2 ص431، 432.

([14]) أخرجه البخاري (١٠٨١)، ومسلم (٦٩٣)، أخرجه الترمذي في أبواب السفر، باب ما جاء في التقصير في السفر برقم (544)، ج2 ص428.

([15]) سنن الترمذي ج2 ص430.

([16]) المغني والشرح الكبير لابن قدامة ج2 ص90.

([17]) انظر هذه الآثار في سنن الترمذي، أبواب السفر، باب ما جاء في كم تقصر الصلاة، ج2 ص431-434.

([18]) كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني، ج1 ص97-98، وانظر البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني ج3 ص18-21، وشرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني ج2 ص34-36، وإعلاء السنن للتهانوي ج5 ص297-301.

([19]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن رشد ج1 ص169-170، وانظر حاشية الرهوني على شرح الزرقاني ج2 ص128، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج1 ص363.

([20]) الأم للإمام الشافعي، ج1 ص183-184، والحاوي الكبير للماوردي، ج2 ص464، وحواشي الشرواني والعبادي، ج2 ص375.

([21]) كتاب الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي، ج2 ص64، وانظر الإنصاف للمرداوي، ج2 ص330.

([22]) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج1 ص513.