الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فظاهر السؤال عن النصوص التي تفيد أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، في حين أنه وردت نصوص يفيد ظاهرها تكليف الإنسان بما لا يستطيعه؛ فالجواب عن هذا السؤال من وجهين:
الأول: النصوص التي تفيد على سبيل القطع أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، هذه النصوص في كتاب الله -عز وجل-، يقرؤها المسلم في كتاب الله، لا لبس فيها، ولا غموض، وتفصيل ذلك ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- أن الله -عز وجل- لما أنزل قوله: ﴿لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾ (البقرة: 284) اشتد ذلك على صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم جَثَوْا على الرُّكَبِ، فقالوا: يا رسول الله! كُلِّفْنَا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟، بل قولوا: سمعنا، وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير»([1])، فلما أقروا بذلك، وذلت بها أنفسهم، أنزل الله بعدها قوله- تعالى-: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة: 285)، ففي هذا إخبار من الله عن استجابتهم للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنهم لا يفرقون بينهم، كما أنهم سمعوا وأطاعوا، وأنهم سألوا ربهم الغفران، وبعد هذا نَسَخَ الله الآية التي تشير إلى المحاسبة على ما في نفوس العباد؛ رأفة ورحمة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، فأنزل الله قوله -جل في علاه- : ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ﴾ (البقرة:286)، ثم أنزل قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: 16)، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ﴾ (الحج:78).
وتوكيدًا لهذه النصوص لم يكتب الله الصيام إلا على البالغ العاقل، ولم يكتب الحج إلا على المستطيع، ولم يكتب على صاحب المال زكاته إلا بالقدر الذي لا يضره، ولم يكلف الله المريض والمسافر بالصيام، فيصوم المريض إذا شُفِيَ، ويصوم المسافر إذا رجع، وفي هذا قال -عز وجل-: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ﴾ (البقرة: 185) ، ولم يكلف الله المعسر بالدين، بل أوجب الانتظار إلى يسره، قال -عز وجل-: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ﴾ (البقرة:280)، ولم يؤاخذ الله عباده بالأخطاء التي لم يتعمدوها، فقال -عز وجل- : ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب:5)، ولم يؤاخذهم بالنسيان، فرفع عنهم الخطأ والنسان وما استكرهوا عليه، والشاهد فيه قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ﴿إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه﴾([2]).
فهذه النصوص قاطعة بأن الله -عز وجل- لم يكلف عباده إلا بما يستطيعون، وليس هناك نصوص أعظم من هذه النصوص في كتابه، وفي سنة رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم -.
[1] – أخرجه مسلم (١٢٥)، أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (9344).
[2] – أخرجه ابن ماجه برقم: (2043)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٧٥).