الزواج رابطة شرعية أوجبها الله على عباده، وهذه الرابطة يجب أن تبنى على المحبة والتعامل بالمعروف بين الزوجين، وإلا تحولت إلى رابط يقوم على الكراهية والبغضاء، مما يترتب عليه مفاسد يصعب على أي منهمـا تحملها؛ ذلك أن النفس البشرية تستعصي على الانقياد والطواعية، عندما تحاصر بالأذى الجسدي أو النفسي أو الاستفزاز بـأي صورة من صوره، وهو ما يؤدي إلى حالات الصدام، سواء في الأحوال العامة، أو في أحوال الزواج خاصة، وما ينتج عن كل ذلك من أضرار ومفاسـد، ولهذا جعل الله الزواج مودة ورحمة في قوله جل ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الروم:21]، وفي هذه الآية أحكام عدة:
منها: أن الزواج من آيات الله، وهذا دليل على تعظيمه؛ لأن الله عظم أمره حين جعله من آياته.
ومنها: أن الله وصفه بالسكينة بين الزوجين، ثم اتبع ذلك بوصفه بالمودة تعبيرًا عن المحبة، ووصفه كذلك بالرحمة تعبيرًا عن الرأفة، وختم الآية بأن هذه النعمة التي أنعم بها على عباده لا يدركها إلا العقلاء الذين يتفكرون في آيات الله، والتفكير في الزواج يكون بالمحبة بين الزوجين، فإن لم يكن فبالرحمة بينهما، فإن فُقد هذا التفكير في عنصريه، أو أحدهما أصبح الزواج بلا معنى، وفي هذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء([1]).
ولما كانت الآية السابقة بأحكامها تذكير وتبصير من الله لعباده عن تعظيم أمر الزواج، فقد أمرهم جل وعلا بالحفاظ على هذا الأمر بعد أن نهاهم عما يؤدي إلى فساده، وقد جاء هذا في آية من كتابه العزيز في قوله جل ذكره: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
والمراد بالعشرة حسن المخالطة وكرم الصحبة، وما يستتبع ذلك من حسن المعشر، وجميل الفعل، وهذا الأمر للأزواج جاء بعد نهيهم وتحذيرهم من الأفعال والتقاليد الفاسدة التي كانت سائدة في الجاهلية حيث كان يحكم على المرأة إذا توفي عنها زوجها، أن تكون إمرتها تحت أوليائه إن شاء أحدهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق وأولى بها من نفسها ومن أوليائها؛ فحرم الله ذلك بقوله جل ذكره: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا} [النساء:19]، كما أن الأمر القاضي بوجوب العشـرة بالمعروف جاء بعد النهي عن عضل الزوجات، حيث كن يضارين لكي يتركن صداقهن أو بعضه، أو أي حق من حقوقهن، فحرم الله ذلك بقوله -تعالى-: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، هذا في كتاب الله أما في سنة رسوله محمد ﷺ فقد أكد -عليه الصلاة والسلام- على وجوب حسن العشـرة بين الزوجين؛ ففي حجة الوداع أمر رجال أمته في خطبته البليغة أن يستوصوا بنسائهم خيرًا قائلًا: (واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عـنـد كـم عـوان)([2]).
والاستيصاء بالنساء تأكيد لما جاء في الكتاب من وجوب العشرة بالمعروف، وما تقتضيه العلاقة بين الزوجين من وجوب المحبة والرحمة بينهما، ناهيك بمعالجته -عليه الصلاة والسلام- لما قد يراه الرجل في زوجته، كالعيب الخلقي أو الخلقي (الذي يرقى إلى درجة الفحش)، مما ينفر منه طبعه؛ فلكي لا تستفزه نفسه، فيسيء علاقته بها أرشده -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها آخر)([3])، وهذا البيان العلاجي للحالة النفسية التي قد يصاب بها الزوج جراء صفة في زوجـته جـاء في أثر تـوجـيه الله للأزواج في قوله جل ثناؤه: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ومع كل ما أمر الله ورسوله به من وجوب حسن العشرة بين الزوجين؛ إلا أن واقع المعايشة قد يكون صعبا عليهما، أو على أحدهما، لهذا تعرض الفقهاء رحمهم الله لهذه المسألة:
ففي مذهب الإمام مالك: يجب ترك الإضرار بين الزوجين، وهذا الإضرار يعد أحد وجوه الفراق بينهما([4]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: إذا أساء الزوج خلقه وآذى زوجته كما لو ضر بها بلا سبب، نهي عن ذلك من غير تعزير، لما يورثه التعزير من وحشة، فيقتصر الأمر على النهي، فإن عاد الزوج إلى الإساءة، وجب تعزيره؛ إذا طلبت زوجته حكمًا بذلك، فإن اشتد الشقاق بينهما بعث الحاكم حكما من أهله، وحكما من أهلها، ويعهد كل منهما إلى وكيله بما يراه، ثم يفعل الوكيلان الأصلح من صلح أو تفريق بينهما([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: إذا وقع الشقاق بين الزوجين نظر فيه الحاكم فإن بان له أنه من المرأة فهو منها نشوز، وإن بان أنه من الرجل أسكنهما إلى جانب ثقة، يمنعه من الإضرار بها والتعدي عليها، وكذلك إن بان من كل واحد منهما تعدٍ أو ادعى كل واحد منهما أن الآخر ظلمه، أسكنهما إلى جانب من يشرف عليهما، ويلزمهما الإنصاف، فإن خيف الشقاق بينهما بعث الحـاكم حكمًا من أهل الزوج، وحكما من أهلها، ليفعلا ما يريان المصلحة فيه من جمع أو تفريق([6])؛ عملًا بقول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
قلت: ولما كان الزواج عقد شرعـي يقوم على الرضا، فإن هذا الـعقـد يتضمن واجبات على كل من الزوجين تجاه الآخر، وهذه الواجبات كثيرة منها ما هو ظاهـر، ومنها ما هو باطن في خصوص الزوج وزوجه:
أما الظاهـر في خصوص الزوج:
فمنه: وجوب تمكينها من أداء فرائضـها الدينية كالصلاة والصيام والحج.
ومنه: وجوب تمكينها من الحصـول على نفقتها في مختلف الحاجـات المعتادة، والمعروفة بين مثيلاتها.
وأمـا الباطن من الواجبات: فهو ما بين الزوج وزوجته من حسن المعاشرة بالقول والفعل ونحو ذلك من أنواع البر، التي تقتضيها طبيعة المعاشرة.
أما واجبات الزوجة من حيث ظاهرها:
فمن ذلك طاعة زوجها في غير معصية الله، وحفظ ماله وعرضه، والمشاركة في تربية ولده.
وأما واجباتها من حيث باطنها:
فمعاشرته كذلك بالمعروف في القول والفعل، ونحو ذلك من الخصوصيات التي تقتضيها العلاقة الحسنة بين الزوج وزوجته.
وفي هذا السياق تكون الواجبات متبادلة بين الزوجين يجب على كل منهما أدائها، فإذا أخل أحـدهـمـا بواجبه أصبح عقد الزوجية معرضًا للشقاق، فلو أساء الزوج إلى زوجـته، فلم يعطها نفقتها المعتادة وجب لها الأخذ من ماله ما يكفيها، كما حكم بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهند بنت عتبة على زوجها أبي سفيان([7]). فإن لم يكن له مال، أو كان شحيحًا به عليها سقط حقه عليها، فيكون لها الحق في طلب الطلاق منه، وإن منعها عن حج فريضتها سقط حقه في منعها من السفر إذا كان ذلك مع محرم لها، وإن أساء عشرتها بالقول أو الفعل سقط حقه في معاشرتها له، والحكم على الزوج من حيث سقوط حقوقه الزوجية في حال إساءته لزوجته، هو نفس الحكم الذي يطبق على الزوجة في حال إساءتها لزوجها، على أن هناك حقوق لا تسقط بأي حال بين الزوجين حتى في حال شقاقهما فيحرم على الزوج مثلًا ظلم زوجته في عرضها لمجرد الانتقام منها، ويحرم على الزوجة ظلم زوجها بخيانته في ماله أو عرضه، لمجرد الانتقام منه، فكل ذلك مما حرمه الله وعظم تحريمه.
وينبني على ما سبق أنه إذا كان ما ذكرته الأخت السائلة صحيحًا، فليس عليها جناح في تقصيرها في معاشرة زوجها بالمعروف، وإن استطاعت أن تصبر فهو خير لها؛ لأن الله وعد الصابرين خيرًا لقوله جل ثناؤه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين} [النحل:126]، وإن لم تستطع ففي أحكام الله ما ييسر لها الأمر من طلاق وخلع، ترجع فيهما إلى القضاء، وفي كل الأحوال يجب على هذا الزوج، وعلى الأزواج عمومًا، بما لهم من سلطة القوامة على أزواجهن أن يتقوا الله ويخشوه فيهن، ولا يظلموهن ويسيؤوا العشرة معهن؛ لأن ذلك مما يخالف شرع الله، ويؤدي إلى فساد العلاقة الزوجية، التي أرادها الله، وجعلها علاقة مودة ورحمة وسكينة للنفوس، وليذكروا دائمًا قول رسولنا وأمامنا وقدوتنا عليه أفضل الصلاة والسلام: (واستوصوا بالنساء خيرًا).
والله المستعان
([1]) الجامع لأحكام القرآن القرطبي، ج١٤ ص ۱۷
([2]) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء، بخير فإنهن عندكم عوان صحيح البخاري ج 6ص ١٤٥، وأخرجه مسلم مثل لفظ البخاري في كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء صحيح مسلم بشرح النووی، ج۱۰ ص57-58، وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب حق على المرأة على الزوج واللفظ له، سنن ابن ماجه، ج1 ص 594 برقم (1851).
([3]) أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص۱۸۰، برقم (١٤٦٩).
([4]) المدونة الكبرى للإمام مالك برواية سحنون بن سعيد، ج۲ ص٢٥٤، ومقدمات ابن رشد. ٢ م٢٥٤، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص ١٤٦-١٥١.
([5]) الأم للإمام الشافعي، ج5 ص116-١١٧، ونـهـايـة المحتاج إلى شرح المنهاج، ج6 ص۳۹۱-۳۹۲، والمجموع شرح المهذب، ج١٦ ص ٤٥١.
([6]) المغني والشرح الكبير، ج۸ ص١٦٦-١٦٨، وكشاف القناع عن متن الإقناع، ج5 ص۲۰۱-۲۱۱، وشـرح مـنـتـهى الإرادات، ج3 ص106، والـفـروع لابن مفلح، ج5 ص 340-342.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد. فتح الباري، ج۹ ص٤١٤، برقم (٥٣٥٩)