الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالهدية بين الناس لها صفتان: الأولى جائزة بل مستحبة، إذا كانت بين الأقارب والأصدقاء والجيران، والأصل فيها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” تَهادَوا تحابُّوا”([1]) وقد درج الناس عليها؛ لدلالتها على المحبة والتقارب بينهم.
أما الصفة الثانية للهدية فمحرمة؛ لأنها – وإن وصفت بأنها هدية – فهي رشوة، الغاية منها اقتطاع الحقوق والظلم، وهو ما يحدث من رشاء العاملين لكسب مودتهم ،واستغلال هذه المودة من قبل المهدين للتعدي على الحقوق، وقد عظّم الله أمر الرشاء في قوله -عز وجل-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة:188)، وقوله -عز ذكره-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)(النساء:29)، وقوله -تقدس اسمه-: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) إلى قوله: ( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(المائدة:60-62) كما عظّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الرشاء، وأن اللعنة تصيب أصحابه، فقال -عليه الصلاة والسلام-:” لعنةُ اللهِ على الرّاشِي والمُرْتَشِي” ورُوِيَ “والرَّائِشَ” ([2]) و في حديث أبي حميد الساعدي أن رسو ل الله -صلى الله عليه وسلَّمَ- استعمل رَجُلًا علَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قالَ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ، حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطِهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ بَصْرَ عَيْنِي وسَمْعَ أُذُنِي”([3]) فدل هذا على تحريم الرشوة بكل أسمائها وصفاتها.
هذا في عموم المسألة، أما عن سؤال الأخت، فالهدية المشار إليها سواء كانت صغيرة أم كبيرة تعد محرمة؛ لأن الشركات ما كانت تهدي الهدية إلا لغاية: هي استدراج المهدى له للعمل لمصلحتها؛ فاقتضى هذا تحريم هذه الهدية. والله – تعالى- أعلم.
[1] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (594)، وأبو يعلى (6148)، والبيهقي (12297). قال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/77): لم يصِحَّ. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/117): يُروى من طرقٍ. وجَوَّد إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/53)، وحَسَّن إسناده ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/1047)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/100): اختُلِفَ فيه على ضمام. وحَسَّن الحديث الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (594).
[2] أخرجه أبو داود (3580)، والترمذي (1337) باختلاف يسير، وابن ماجه (2313)، وأحمد (6984) واللفظ لهما.
[3] أخرجه البخاري (6979)، ومسلم (1832).