الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالجواب عن السؤال من وجهين: الأول: صبغ الشعر باللون الأسود، وقد وردت في هذا المنع أحاديث صحيحة، منها ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ( يَكونُ قومٌ يخضِبونَ في آخرِ الزَّمانِ بالسَّوادِ كحواصلِ الحمامِ لا يريحونَ رائحةَ الجنَّةِ)([1])، ومنها ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أُتِيَ بأبي قُحَافةَ يومَ فتحِ مكةَ ورأسُهُ ولِحيتُهُ كالثُّغَامَةِ بياضًا، فقال رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم-: ( غيِّروا هذا بشيءٍ واجتنبوا السوادَ)([2]) فدل الحديث الأول على الوعيد للذين يخضبون شعورهم باللون الأسود، والوعيد دليل على تحريم ما وعد الله عليه بالعذاب.
أما الحديث الثاني فيدل على أمرين: الأول: تغيير الشيب بلون غير لون الأسود. الأمر الثاني: أن يكون التغيير بما يغاير اللون الأسود أي بالحناء أو الكتم مثلًا، والأمر هنا للوجوب، والشاهد فيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ( إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم)([3]) كما فعل ذلك عدد من الصحابة([4]) فاقتضى ما ذكر عدم جواز صبغ الشعر باللون الأسود، هذا من وجه، ومن وجه آخر قيل بجواز ذلك بلا كراهة، وهو قول في مذهب الحنفية، واختيار أبي يوسف ومحمد بن الحسن، قال ابن عابدين في حاشيته: “ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن، كما في الخانية، وقال أيضًا: والأصح أنه لا بأس به في الحرب وغيره”. وقال في الفتاوى الهندية: “وعن الإمام – يعني أبا حنيفة – أن الخضاب حسن بالحناء والكتم والوسمة”. والوسمة السواد. وبعضهم جوزه بلا كراهة – يعني الصبغ بالأسود – وروي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي، يعجبها أن أتزين لها”. قال محمد بن الحسن: “لا نرى بالخضاب بالوسمة والحناء والصفرة بأسًا، وإن تركه أبيض فلا بأس بذلك، كل ذلك حسن” ([5]) و هو مذهب بعض الصحابة، واختاره جماعة من التابعين منهم ابن سيرين وأبو سلمة، ونافع بن جبير، وموسى بن طلحة، وإبراهيم النخعي وغيرهم([6]).
الوجه الثاني: أن الحكمة من منع صبغ الشعر باللون الأسود تحريم مضاهاة الله في خلقه، فقد خلق الله عباده في أحسن خلق، وركبهم في أحسن تركيب، وصورهم في أحسن صورة، فأي تغيير في هذا الخلق والتركيب يعد اعتراضًا على الله. وكان اعتراض إبليس على خلق الله هو السبب في طرده من الجنة حين : (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)(الأعراف:12).
فاستحق هذا الطرد والعذاب واليأس من رحمة الله، ومن الحكمة في المنع أيضًا وجوب سلامة التعامل بين العباد وعدم غش بعضهم بعضًا، فقد يغش الخاطب خطيبته فيظهر لها شابًّا بشعر أسود وهو على خلاف ذلك، وكذا المرأة قد تغش خاطبها فتظهر له شابة بشعر أسود وهي ليست كذلك، فمن سلامة التعامل بين العباد الصدق في التعامل وتحريم الغش والتدليس.
فالحاصل استحباب تغيير الشيب، ووجوب اجتناب السواد، كتغييره بالحناء والكتم أو ما في حكمهما. والله – تعالى- أعلم.
[1] صحيح سنن أبي داود للألباني (4212).
[2] أخرجه مسلم (2102).
[3] رواه الترمذي ( 1753 ) وأبو داود ( 4205 ) وابن ماجه ( 3622 ) . والحديث : قال الترمذي عنه : حسن صحيح . والكَتَمُ: نَبْتٌ يُخْلَط مَعَ نَباتِ الوَسِمَةِ- وهو شَجَرٌ باليَمَنِ يُخْضَب بوَرَقِه الشَّعرُ- وَيُصْبَغُ بالكَتَمِ الشَّعْرُ أسْوَدَ. وَقِيلَ: الكَتَمُ هو الوَسِمَةُ.
[4] ” عون المعبود شرح سنن أبي داود ” ( 11 / 266 ).
[5] حاشية بن عابدين (6/756) وراجع أيضًا: الموطأ لمالك رواية محمد بن الحسن الشيباني(ص:331).
[6] مصنف ابن أبي شيبة (5/183).