سؤال من الأخت نادية.. ب.. س من الجزائر تقول فيه: ما حكم المرأة المغتصبة جنسيا؟، وهل تعد في هذه الحال عفيفة؟، وهل يعد وليدها من هذا الاغتصاب ولد زنا؟.

حكم المرأة المغتصبة جنسيا وحكم ولدها

الإكراه في اللغة: القهر، أكرهه على الأمر إكراها: حمله عليه قهرا([1]).

وفي الشرع: عبارة عن الدعاء إلى الفعل بالايعاد والتهديد مع وجود شرائطه، وهو نوعان:

الأول: يرجع إلى المُكْرِه -بكسر الراء-: وهو أن يكون قادرا على تحقيق ما أوعد؛ لأن الضرورة لا تتحقق إلا عند القدرة.

والثاني: يرجع إلى المُكْرَه -بفتح الراء-: وهو أن يقع في غالب ظنه أنه لو لم يجب ما دُعي إليه تحقق ما أُوعد به؛ لأن غالب الرأي حجة، خصوصا عند تعذر الوصول إلى اليقين([2]).

وعلى هذا فإن الإكراه يحدث عندما يكون المكرَه -بفتح الراء- واقعا تحت تأثير الخوف الشديد بما يخشى منه تلف نفسه، أو أي عضو من أعضائه، فإن كان الخوف يسيرا -كما لو كان مجرد تهديد من غير قادر-، فلا يكون ثمة إكراه.

والإكراه بمعناه الشرعي يرفع الحكم المترتب على المكرَه -بفتح الراء- من جراء الفعل الذي وقع عليه.

والأصل في هذا الكتاب والسنة والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وقوله -عز وجل-: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إكراههِنَّ غَفُورٌ رَّحِيم} [النور:33]، وقد نزلت الآية الأولى في عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- حين أكرهه المشركون، فقال لهم بلسانه ما أرادوا منه أن يقول، ولما شكا لرسول الله -ﷺ- ما أصابه قال له -عليه الصلاة والسلام-: «كيف تجد قلبك»؟. قال: مطمئن بالإيمان، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: «فإن عادوا فعد»([3]).

وقد دلت هذه الآية على العفو عن الكفر في حال الإكراه، فانبنى عليها العفو عن غيره فيما هو أقل منه كالزنا، وأما الآية الثانية فدلت على أن الإكراه عذر للمكرهة على الزنا، فأزال ذلك عنها الإثم والعقوبة.

وأما السنة: فما جاء به الأثر المشهور عن رسول الله -ﷺ-: «إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، وفي رواية أخرى: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([4]). وما جاء في الأثر -أيضا-: أن امرأة خرجت على عهد رسول الله -ﷺ- تريد الصلاة، فتلقاها رجل، فاستكرهها، فلما علم بذلك رسول الله -ﷺ- قال لها: «اذهبي فقد غفر الله لك»([5])، وما جاء في الأثر كذلك: أن امرأة كانت بمكة، وقد اجتمع عليها الناس حتى كادوا أن يقتلوها، وهم يقولون: زنت زنت، فأُتي بها إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهي حبلى، وجاء معها قومها، فأثنوا عليها بخير، فقال عمر: أخبريني عن أمرك، قالت: يا أمير المؤمنين! كنت امرأة أصيب من هذا الليل، فصليت ذات ليلة، ثم نمت وقمت، وإذا برجل قد أكرهني، ثم ذهب. فقال عمر -رضي الله عنه-: لو قتل هذه من بين الجبلين أو قال الأخشبين لعذبهم الله، فخلى سبيلها([6]). وما جاء في الأثر كذلك أن امرأة قد أجهدها العطش، فمرت على راعٍ، فاستسقت منه، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت فشاور عمر -رضي الله عنه- الناس في رجمها، فقال عليٌّ -رضي الله عنه-: هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها، ففعل([7]).

وأما المعقول: فإن الإكراه بما يعنيه من قهر يسلب الإرادة والقدرة على التصرف، فاقتضى هذا رفع التكليف عن المكرَه -بفتح الراء-، كحال الجنون والصغر، ولو لم يرفع هذا التكليف لكان الأمر حمل غير القادر على ما لا يقدر عليه، وهذا مما يتنافى مع العقل وطبائع الأمور.

وعلى أصلي الكتاب والسنة ذهب عامة الفقهاء إلى عدم عقاب المكرهة على الزنا:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا حد عليها؛ لأنها بالإكراه صارت محمولة على التمكين خوفا من المضرة، فيمنع وجوب الحد عليها؛ لأنه لا إثم عليها([8]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا عقوبة على المغتصبة، فإذا ظهر عليها حمل، وقالت: إنها اغتصبت، أو استكرهت، فينبغي أن تظهر أمارة على ذلك، كما لو شوهد منها استغاثة أو صياح أو ما أشبه ذلك مما يعلم معه في الظاهر صدقها([9]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: لا عقوبة على المكرهة على الزنا، بل على من أكرهها، فلو اضطرت امرأة لطعام -مثلا-، وكان ذلك عند من لم يسمح لها به إلا حيث مكنته من نفسها، فمكنته لدفع الهلاك عن نفسها، فلا حد عليها، وإن لم يجز لها ذلك؛ لأنه كالإكراه، وهو لا يبيح ذلك، وإنها يسقط عنها الحد للشبهة([10]).

وفي مذهب الإمام أحمد: لا عقوبة على المكرهة، ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء -وهو أن يغلبها على نفسها- وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه. نص عليه أحمد([11]).

وليد المغتصبة وحكمه:

إثبات النسب يكون بأحد أسباب ثلاثة:

أولها: الوطء في نكاح صحيح؛ لقول رسول الله -ﷺ-: «الولد للفراش»([12]).

ويشترط في حصول هذا النكاح ولادة الوليد بعد ستة أشهر من النكاح؛ لقول الله -تعالى-: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فاقتضى ذلك ستة أشهر حملا، وأربعةً وعشرين شهرًا فصالا.

ويشترط في حصول هذا النكاح إمكانية وجود الزوج مع زوجته فعلا بعد العقد، فلو حصل العقد وهما بعيدان عن بعضهما، كما لو كان هو في بلد، وهي في بلد آخر- بطل هذا النكاح؛ لفقد الشرط، وذلك على خلاف ما يراه الحنفية من إمكان ذلك عقلا لا فعلا([13]).

كما يشترط في حصول هذا النكاح تصور الحمل من الزوج في العادة، فلو كان الزوج صغيرا بطل هذا النكاح؛ لفقد الشرط.

السبب الثاني: ثبوت النسب في النكاح الفاسد([14])، ويشترط فيه مثل ما يشترط في النكاح الصحيح من تحقق المدة، وإمكان وجود الزوج مع الزوجة، وتصور الحمل من الزوج.

السبب الثالث: ثبوت النسب في حال الوطء بشبهة([15])، ويشترط فيه تحقق مدة الحمل.

وينبني على هذا أن أي اتصال بين الرجل والمرأة خلاف هذه الأسباب يعد اتصالا غير شرعي، ولا يثبت للوليد نسب؛ لأن النسب لا يكون إلا نتيجة للنكاح الشرعي فحسب، وعلى هذا فإن وليد المغتصبة يعد وليدا غير شرعي، له كل الحقوق التي للولد الشرعي ما عدا نسبه([16]).

وخلاصة المسألة: أن المكرهة على الزنا لا تأثم، ولا عقاب عليها، أما وليدها فيعد وليدا غير شرعي. والله أعلم.

 

([1])  المصباح المنير للفيومي ج2 ص531-532.

([2])  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص175-176.

([3])   تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج2 ص568، قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين، (٣٤٠٥): صحيح على شرط الشيخين.

([4])  أخرجهما ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، بأرقام: 2043، 2044 و2045، والأول إسناده ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف أبي بكر الهذلي، وهو في إسناده، والثاني إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع. سنن ابن ماجة ج1 ص659.

([5])   انظر تمام الواقعة في: عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي ج12 ص28-29، وانظر-أيضا-: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري ج5 ص14-15، وأخرج الحديث الإمام الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا، برقم (454)، وانظر: الجامع الصحيح للترمذي ج4 ص45-46، قال الألباني في هداية الرواة، (٣٥٠٥): حسن صحيح..

([6])  السنن الكبرى للبيهقي كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة، ج8 ص236، قال الألباني في إرواء الغليل، (٨/٣٠): إسناده صحيح على شرط البخاري.

([7])  السنن الكبرى ج8 ص236، وانظر: الاستذكار لابن عبد البر ج24 ص111-112، كتاب الحدود، باب ما جاء في المغتصبة، قال الألباني في إرواء الغليل، (٨/٣٠): إسناده صحيح على شرط البخاري.

([8])  بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج7 ص181، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6 ص137، وشرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية للمرغيناني ج5 ص473، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي ج5 ص189، والبناية شرح الهداية للعيني ج6 ص317، وإعلاء السنن للتهانوي ج16 ص371-372.

([9])  المعونة على مذهب عالم المدينة للبغدادي ج3 ص1389-1390، وانظر: المدونة الكبرى للإمام مالك رواية الإمام سحنون مع مقدمات ابن رشد ج4 ص509، وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ج4 ص15.

([10]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7 ص425، والحاوي الكبير للماوردي ج17 ص83، وانظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ج4 ص145.

([11]) المغني لابن قدامة ج12 ص347-348، وانظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداودي ج10 ص183، وكشاف القناع عن متن الاقناع للبهوتي ج6 ص97-99، وكتاب الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي ج6 ص75.

([12]) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب الفرائض، باب “الولد للفراش حرة كانت أم أمة”، برقم (6749 و6750)، فتح الباري للحافظ ابن حجر ج12 ص32-33، وأخرجه في كتاب الحدود، باب “للعاهر الحجر”، برقم (6817 و6818).

([13]) انظر: بدائع الصنائع ج3 ص212، وفتح القدير ج3 ص300 وما بعدها، والبناية شرح الهداية ج5 ص631-642، وبداية المجتهد لابن رشد ج2 ص352، ومغني المحتاج ج3 ص390، والمغني لابن قدامة ج7 ص477.

([14])  النكاح الفاسد هو الذي فقد شرطا من شرائط الصحة، وطرأ له الفساد، ويدخل فيه الأنكحة التي ورد النهي فيها مصرحا كالشغار، ونكاح المتعة، وخطبة الرجل على خطبة أخيه، ونكاح المحلل. راجع: حاشية ابن عابدين ج3 ص131-134، وبداية المجتهد لابن رشد ج2 ص57-58، والمهذب للشيرازي ج2 ص46-47، والمغني لابن قدامة ج6 ص455 وما بعدها.

([15])   الوطء بشبهة هو الاتصال الجنسي غير الزنا، وليس بناء على عقد زواج صحيح أو فاسد، مثل المرأة المزفوفة إلى بيت زوجها دون رؤية سابقة، وقيل: إنها زوجته، فيدخل بها، ومثل وطء امرأة يجدها الرجل على فراشه، فيظنها زوجته، ومثل وطء المطلقة ثلاثا أثناء العدة، على اعتقاده أنها تحل له. انظر: المغني لابن قدامة ج7 ص431-433.

([16])   راجع: بدائع الصنائع ج3 ص211-215، وحاشية الدسوقي ج2 ص457-467، وبداية المجتهد ج2 ص116-118، ومغني المحتاج ج3 ص374-383، وكشاف القناع ج5 ص405-407، والمغني ج13 ص527-528، والمحلى لابن حزم ج9 ص337.