سؤال‮ ‬من‮ ‬الأخت ميفان محمد‮ … ‬من مدينة لوسبيرج في‮ ‬ولاية كارولينا الشمالية في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية، تقول فيه‮:‏‬ لي‮ ‬صديقة مسلمة، وزوجها‮ ‬يملك مطعمًا‮ ‬في‮ ‬أمريكا،‮ ‬وهو‮ ‬يسأل عمّا إذا كان بيع الخمر بداخل المطعم حلالًا أم لا،‮ ‬مع العلم‮ – ‬كما‮ ‬يقول‮ – أن بيع الخمر‮ ‬يقتصر على صالة الطعام فقط،‮ ‬ولا‮ ‬يمسه أي‮ ‬شخص سوى العميل أو العامل (waiter) ‬الذي‮ ‬يعمل في‮ ‬الصالة،‮ ‬كما أنه‮ ‬يقول: ‏إنه لن‮ ‬يتملك ربح الخمر،‮ ‬وسوف‮ ‬يدفع منه إيجار المطعم أو أي‮ ‬شيء آخر مماثل،‮ ‬أما هو فلن‮ ‬يستعمله في‮ ‬معيشته هو أو أسرته، ‬وترجو الأخت ميفان ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حكم بيع المسلم الخمر لغير المسلمين في‮ ‬دولة‮ ‬غير إسلامية‮‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

والجواب: أن الأخ السائل يبحث عن مخرج ما له، خاصة أنه يكتسب رزقه من هذا المطعم الذي يرتاده عدد من الناس، وربما لن يأتوا إليه إذا لم يكن هذا الشراب متوافرًا فيه، ويبرر هذا المَخرج بأنه يوكِّلُ العامل لديه لبيعه، وأنه لن يستفيد منه في معيشته هو وأسرته، وغير ذلك من المبررات الأخرى التي يراها صاحب السؤال وغيره ممن يسألون مثل هذا السؤال؛ لأن ظروفهم قد اضطرتهم إلى العمل في بلاد تبيح بيع المحرمات كالخمر، فيكون المسلم هناك بين مسألتين متعارضتين:‏ مسألة دينه، ومسألة رزقه.

الخمر ثابتة حرمتها في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله -عز وجل-:‏ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} [المائدة: 09-19]، وفي هاتين الآيتين سبعة أحكام يتبين منها مدى شدة حرمتها:‏

أولها: اقترانها بعبادة الأصنام، وهذه العبادة أعظم المحرمات.

وثانيها: وصفها بالرجس، وهو المستقذر من الأشياء.

وثالثها: الوصف بأنها من عمل الشيطان، وهذا هو العدو الأول للإنسان.

ورابعها:  أن الله أمر باجتنابها، وهذا حكم يقتضي التكليف.

وخامسها: أن في اجتنابها الفلاح، وهذا مطلب للمؤمن في دنياه وأخراه.

وسادسها: بيان ما يترتب على تعاطيها من العداوة والبغضاء بين أصحابها.

وسابعها: ما يترتب عليها من الصد عن ذكر الله، وعن المحافظة على الصلاة في أوقاتها. هذا في الكتاب.

 أما في السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ‏(كل شراب أسكر فهو حرام)([2])، وقوله: ‏(الخمر أم الخبائث)([3]).

ولما كانت الخمر نجسة في ذاتها فيتساوى في تحريمها شربها وبيعها، ففي حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -ﷺ-يقول وهو بمكة عام الفتح: ‏(إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)، فقيل:‏ يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: (لا، هو حرام)([4])، وفي حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-: “أن رسول الله -ﷺ-لعن في الخمر عشرة:‏ عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له”([5])، وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: ‏سمعت رسول الله -ﷺ-يخطب بالمدينة، فقال: ‏(يا أيها الناس! إن الله -تعالى- يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا، فمن كان عنده منها شيء فليبعه، ولينتفع به)، قال:‏ فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي-ﷺ-:‏ (إن الله  -تعالى-حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية، وعنده شيء، فلا يشرب، ولا يبع) قال:‏ فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة، فسفكوها([6]).

وعلى هذا فإن عامة علماء المسلمين على تحريم بيعها، قال ابن المنذر: “‏أجمعوا على أن بيع الخمر غير جائز”([7])،

ففي مذهب الإمام مالك: لا يصح بيع الأعيان النجسة، ومنها الخمر([8]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: أن بيع الخمر وسائر أنواع التصرف فيها حرام على أهل الذمة، كما هو حرام على المسلم([9]).

وفي مذهب الإمام أحمد: ‏لا يجوز بيع الخمر، ولا التوكيل في بيعها، ولا شراؤُها؛ لأن الخمر نجسة محرمة، فحرم بيعها، مثلها في ذلك مثل الميتة والخنزير([10]).

وعند أهل الظاهر:‏ لا يحل بيع الخمر لا لمؤمن ولا لكافر([11]).

أما في مذهب الإمام أبي حنيفة ‏فذكر الإمام ابن قدامة في المغني: أن الإمام أبا حنيفة قال:‏ “يجوز للمسلم أن يوكل ذميًّا في بيعها وشرائها”، ثم قال:‏ “وهذا غير صحيح”([12])، فإن عائشة روت أن النبي-ﷺ-قال:‏ (حرمت التجارة في الخمر)([13])، وذكر الإمام الكاساني في البدائع ‏أنه “عند بعض الأصحاب لا يمنع أهل الذمة من بيع الخمر؛ لأنه مباح لهم الانتفاعُ بها شرعًا لهم، كحل الخل للمسلمين، فكان مالًا في حقهم، فيجوز بيعها، واستدلوا بما روي أن عمر-رضي الله عنه- كتب إلى عشاره في الشام: أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها، ولو لم يجز بيع الخمر لهم لما أمره بتوليتهم البيع([14]).

قلت:‏ إن قيام غير المسلم ببيع الخمر وكيلًا عن المسلم يتنافى مع الحكم بتحريمها؛ ذلك أن لهذا التحريم أحكامًا عظيمة، ذكرنا منها سبعة أحكام مما أشير إليه آنفًا، فإذا قيل بجواز هذه الوكالة لأدى ذلك إلى تجاوز في الأحكام، فقد يأتي من يقيس على الوكالة في بيع الخمر جواز وكالة المسلم لغير المسلم في تعاطي الربا، ونحو ذلك من المحرمات، وهذا غير مراد أصلًا ممن ترخص في الوكالة ببيع الخمر.

إن ما حرمه الله من شيء ينصب على تحريمه في ذاته ووسيلته، وهذا يقتضي حكمًا اجتنابه، وإن المسلم حين يكون بين خيارين مناطهما دينه ودنياه عليه أن يختار دينه؛ ذلك أن الدنيا تبع للدين، فمن التمسها باتباع أوامر الله، واجتناب نواهيه يسَّرها الله له، ومصداق ذلك في قوله -عز وجل-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، وقد يجد المسلم هذه المخارج ماثلة له في الدنيا، إما بكثرة المال أو الولد، أو نحو ذلك من متع الحياة الدنيا، أو يجدها في الآخرة، وهذا أعظم ما يبتغيه المؤمن، ومن التمس الدنيا بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه جعل الله له من أمره عسراً، وفي هذا قال  -عز وجل-: ‏{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 421-621]، وقوله {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين*وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون} [الزخرف: 63-73].

لهذا فإن ترك الأخ السائل لبيع الخمر في مطعمه يعد طاعة لله ورسوله، وإعلاء لدين الله في جزء من أرضه، وسيعوضه الله خيرًا عما يفقده من حطام مصدره انتهاك لحرماته.

وخلاصة المسألة: ‏أن الخمر محرمة بنص الكتاب والسنة والإجماع، وما قيل عن جواز قيام غير المسلم ببيع الخمر وكالة عن المسلم يتنافى مع الحكم بتحريمها؛ ذلك أن لتحريم الخمر أحكامًا عظيمة.

منها: أن الله وصفها بعبادة الأصنام كما وصفها بالرجس، وكونها من عمل الشيطان، وما يترتب على تعاطيها وبيعها من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة.

ولو قيل بجواز هذه الوكالة لأدى ذلك إلى تجاوز في الأحكام، وإن ما حرم الله من شيء فإن تحريمه ينصب على ذاته ووسيلته، وهذا يقتضي حكمًا اجتنابه، وإذا كان المسلم بين خيارين مناطهما دينه ودنياه وجب عليه أن يختار دينه، وسيعوضه الله خيرًا عما يفقده من حطامٍ مصدره انتهاك حرماته.

والله -تعالى- أعلم.

 

([1])  أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، برقم (٣٠٠٢) صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص5429.

([2])  أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، برقم (2003) صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص5489.

([3])  أخرجه النسائي في كتاب الأشربة، باب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات، بلفظ «اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث»، برقم (٢٨٦٥)، سنن النسائي ج8 ص718، صححه الألباني في صحيح النسائي، (٥٦٨٢).

([4])  أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، برقم (٦٣٢٢)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج4 ص٥٩٤.

([5])  صحيح سنن أبي داود للألباني، ج2 ص700، برقم (١٢١٣).

([6])  أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، برقم (٨٧٥١)، صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص4291.

([7])  الإجماع لابن المنذر ص128.

([8])  أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك للكشناوي ج2 ص ٨٥٢-٩٥٢ .

([9])  المجموع شرح المهذب للإمام النووي ج9 ص٥٢٢، والوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي للغزالي ج1 ص133.

([10])     المغني لابن قدامة ج6 ص320، والشرح الكبير مع المغني ج4 ص41.

([11])     المحلى بالآثار ج7 ص490.

([12])     المغني ج6 ص320.

([13])     أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، برقم (1580)، صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص4292.

([14])     بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج5 ص143.