القسم هو الحلف، وهو في اللغة: اليمين، وأصلها العقد بالعزم والنية([1]). وفي الاصطلاح: توكيد حكم بذكر معظَّم على وجه مخصوص([2]).
والقسم بالله أمر عظيم؛ ذلك أنه قسم بذاته عز وجل أو بأحد أسمائه وصفاته، فاقتضى هذا أن يكون القسم به وحده، وأن يكون المقسم صادقًا فيما أقسم به، وأن يكون محل قسمه مشروعًا. أما كون القسم بالله وحده فهذا مما اختص به دون خلقه، فله أن يقسم بما شاء منهم، وليس لهم أن يقسموا إلا به؛ لأن القسم تعظيم للمقسم به، ولا عظمة إلا له، فدل هذا على أن القسم بغيره يعد شركًا له ولهذا قال رسول الله r: (من حلف بغير الله فقد أشرك)([3]). وفي حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله r أدرك عمر بن الخطاب – وهو يسير في ركب يحلف بأبيه – فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي r ذاكرًا ولا آثرًا([4]). وفي الحديث: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله)([5]). وقد سمع ابن عمر -رضي الله عنهما- رجلًا يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله r يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)([6]).
وأما أن يكون المقسم صادقًا في قسمه فلأن القسم تعظيم للمقسم به -كما ذكر- فاقتضى هذا تحريم الكذب في القسم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 12]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون*مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النحل: 116-117].
والكذب من آيات النفاق ودلائله، لقول رسول اللهr : (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)([7]). وقوله عليه الصلاة والسلام: (إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)([8]). وقوله r: (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا)([9]).
وأما كون محل القسم مشروعًا، فلأن كل محرم في ذاته أو غايته أو وسيلته يعد محرمًا للتعامل به، فلا يجوز -مثلًا- أن يكون محل القسم محرمًا: كقسم الرجل أن يأكل الربا، أو يشرب الخمر، أو نحو ذلك من أنواع المحرمات.
وللعلماء في مسألة الحلف بغير الله أقوال كثيرة، تدل على تحريم هذا الحلف. قال ابن عبدالبر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع([10]).
وفي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز فكيف على الخالق([11]).
وفي مذهب الإمام مالك: يكره ذلك([12]).
وفي مذهب الإمام الشافعي قال الماوردي: لا يجوز لأحد أن يحلف أحدًا بغير الله، لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر، وإذا حلف الحاكم أحدًا بشيء من ذلك وجب عزله لجهله([13]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يحرم الحلف بغير الله، بدليل قول رسول الله r : (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)([14]).
وعند الإمام ابن حزم: أنه لا يمين إلا بالله عز وجل إما باسم من أسمائه تعالى، أو بما يخبر به عن الله تعالى، ولا يراد به غيره.. فهذا هو الذي إن حلف به المرء كان حالفًا، فإن حنث فيه كانت فيه الكفارة، وأما من حلف بغير ذلك فليس حالفًا ولا هي يمينًا، ولا كفارة في ذلك إن حنث، ولا يلزمه الوفاء بما حلف عليه بذلك، وهو عاصٍ لله تعالى فقط، وليس عليه إلا التوبة من ذلك والاستغفار([15]).
وينبني على ما سبق تحريم القسم بغير الله، سواء في الأناشيد الوطنية أو في غيرها؛ لأن في هذا القسم تعظيمًا لغير الله وهو وحده المستحق للتعظيم.
([1]) لسان العرب ج9ص153، مادة «حلف»، القاموس المحيط ص1061 – 20611602، مادة «يمن»، والمعجم الوسيط ج1 ص192.
([3]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص 69، 87، 125، قال الألباني في صحيح الجامع (٦٢٠٤(: صحيح.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، فتح الباري ج11 ص538، برقم (6647، 8466).
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص4491، برقم (1636)
([6]) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، سنن الترمذي ج4 ص94-93، برقم(1535)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٥/٦٩.
([7]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص663، برقم).207 (
([8]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص6637، برقم (70622).
([9]) أخرجه مسلم في كتاب البر، باب قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، صحيح مسلم بشرح النووي ج10 ص 6637-6636، برقم (7062).
([10]) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، لابن عبد البر ج15 ص 95.
([11]) شرح العقيدة الطَّحاوية، لابن أبي العز الحنفي ص 792.
([12]) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ج3 ص88 88 – 98، وبداية المجتهد، لابن رشد ج2 ص407-408، وفتح الباري ج11 ص540.
([14]) المغني ج13 ص438-436، والحديث أخرجه البخاري مطولا برقم (6108).