الأصل أن القسم يكون بالله وحده، وعدم القسم بغيره من المخلوقات، كقسم الإنسان بوالديه، أو بالكعبة، أو بالرسول، أو بالنبي، أو الأمانة؛ لأن القسم تعظيم للمقسـم به، والتعظيم لا يكون إلا لله وحـده. والأصل في هذا قول رسول الله r: (من حلف بغير الله فقد أشرك)([1]). وقوله: (من حلف بالأمانة فليس منا)([2]). وقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله)([3]). وفي حديث عبدالله بن عمر عن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله r أدركه وهو في ركب يحلف بأبيه فناداهم (ألا إن الله -عز وجل- ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)([4]).
وفي هذه الأحاديث توكيد على أنه لا يجوز القسم بغير الله، وقد أجمع الأئمة على ذلك:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يجوز الحلف بغير الله، فلا يحلف المسلم إلا به متجردًا بالتوحيد والإخلاص([5]).
وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز الحلف بغير الله -عز وجل- في شيء من الأشياء، ولا على حال من الأحوال، وقال الإمام أبو عمر النمري: وهذا أمر مجتمع عليه([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: تكره اليمين بغير الله -عز وجل- فإن حلف بغيره، كالنبي والكعبة والآباء والأجداد لم تنعقد يمينه للحديث السابق المشار إليه: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله تعالى)([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: ويكره الحلف بغير الله، ويحتمل أن يكون محرمًا، وذلك نحو أن يحلف بأبيه، أو بالكعبة، أو بصحابي، أو إمام أو غيره([8]).
ومع أن الإجماع على أن الحلف بغير الله من المنهي عنه، إلا أن ثمة اختلافًا حول طبيعة هذا النهي.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن هذا الحلف مكروه كراهة تحريم([9]).
وفي مذهب الإمامين مالك والشافعي: أنه كراهة تنزيه([10]).
وأما في المذهب الحنبلي: فقالوا إنه محرم ما عدا الحلف بالأمانة([11]).
ومن قال مجتهدًا بجواز الحلف بمخلوقات الله احتج بأن الله أقسم بهذه المخلوقات، كما احتج بحديث الأعرابي الذي سأل رسول الله r عن أركان الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)([12]).
قلت: والجواب عن هذا من وجهين: الأول- أن لله تعالى أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، فقد أقسم ب (الذاريات)، و(الطور)، و(النجم)، و(الضحى)، وغيرها من المخلوقات، ولكن هذا لا يبرر للمخلوق أن يقسم بما يقسم الله به، فهو حين يقسم بأحد مخلوقاته فإنما ينبه خلقه على قدرته، ويؤكد عظمته في صنع هذه المخلوقات؛ فهو الذي خلق (الصافات) أي الملائكة حين يصفون في الصلاة، وهو الذي خلق (الذاريات) أي الرياح حين تذرو التراب، وهو الذي خلق (النجم) و(الطور)، فإذا حلف المخلوق بهذه المخلوقات فقد عظَّمها، والأصل أن يكون التعظيم للذي خلقها وليس لها ذاتها، وأما الاحتجاج بحديث الأعرابي فقيل إن هذه الجملة في الحديث غير محفوظة، فالحديث كما رواه أبو سهيل عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيدالله يقول: جاء رجل إلى رسول الله r من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله r: (خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال رسول الله r: وصيام رمضان، قال: هل عليّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله r الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل ويقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله r: أفلح إن صدق)([13]).فلم يرد فيه (وأبيه)، فلا حجة إذًا للاحتجاج بهذه اللفظة؛ لأنها منكرة، فاقتضى هذا تحريم القسم بغير الله، كما هو شائع بين العامة، من الحلف بالنبي، والأمانة، والشهداء، والعَلَم، والشرف، وحياة الشخص، ونحو ذلك مما يجب على المسلم تجنبه، حتى تكون علاقته بالله في قوله وفعله، مبنية على تعظيمه؛ لأنه المستحق وحده للتعظيم، فلا عظمة إلا له، ولا عزة إلا له، وكل المخلوقين عبيده وتحت تصرفه، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.
فالجواب إذًا عن سؤال الأخت أنه لا يجوز القسم بدماء الشهداء ولا نحو ذلك.
([1]) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم (1535)، ج4 ص93، قال الألباني في صحيح الجامع (٦٢٠٤(: صحيح.
([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالأمانة برقم (3253)، ج3 ص179، قال السيوطي في الجامع الصغير (٨٦٢٧): صحيح.
([3]) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، برقم (3836).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان والنذور، باب النهي عن الحلف بغير الله -تعالى-، برقم (1646)، صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص4490.
([5]) الاختيار لتعليل المختار لابن مودود ج3 ص51.
([7]) المهذب للشيرازي ج2 ص129.
([8]) الشرح الكبير مع المقنع ج27 ص462.
([9]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج3 ص8.
([10]) الشرح الصغير ج1 ص330، وأسنى المطالب ج4 ص242.
([11]) مطالب أولي النهى ج6 ص364.
([12]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب فرض الصلاة، برقم (392)، ج1 ص161.
([13]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، برقم (46)، فتح الباري ج1 ص130.