بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
فلم يتبين من رسالة الأخت السائلة ما إذا كانت لا تزال في عصمة زوجها أم بانت منه، فإن كانت قد طلقت وبانت البينونة الصغرى، ويريد الزوج الرجوع إليها، فلها الحق أن تشترط عليه ما تراه من شروط، فإن قبل بها أصبح ملزمًا بها، عملًا بقول رسول الله ﷺ (المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)([1]). وقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “مقاطع الحقوق عند الشروط”([2]).
أما إن كانت لا تزال في عصمته أو طلقت ولا تزال في العدة، وتريد أن تشترط على زوجها شروطًا لم تكن مشروطة عليه من قبل، فهذه خصومة مرجعها القضاء على أن هناك مسائل شرعية مهمة يجب التنبيه عليها، ومنها حق الزوجة في العمل، وحقها في راتبها، وحقها في الإنفاق عليها وأولادها.
فأما حق الزوجة في العمل، فالأصل أن يكون بإذن الزوج، ولكن ليس له منعها منه ما لم يكن فيه ضرر له أو ضرر لها، وقد ذكر ابن عابدين في حاشيته أن الذي ينبغي تحريره أن يكون منعها من كل عمل يؤدي إلى تنقيص حقه أو ضرره، أو إلى خروجها من بيته، أما العمل الذي لا ضرر فيه فلا وجه لمنعها منه، وكذلك ليس له منعها من الخروج إذا كانت تحترف عملًا، هو من فروض الكفاية الخاصة بالمرأة، مثل القابلة([3]).
وأما حقها في راتبها، فهذا الحق منحصر لها؛ لأنه جزء من مالها، وهذا المال مستقل عن مال زوجها، فلها الحق أن تخفيه عنه، وتتصرف فيه، وليس للزوج منه إلا ما تطيب به نفسها، على أنه إن كان فقيرًا أو محتاجًا فيستحب لها – مجرد استحباب – أن تساعده؛ لما في ذلك من حسن المعاشرة والتعاون بينهما.
وأما نفقتها ونفقة أولادها، فهذا حق لها، بل هو من أعظم حقوقها على الزوج ما لم تكن عاصية له، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 332]، وقوله -عز ذكره-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله -جل ثناؤه-: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وأما السنة: فما روته عائشة -رضي الله عنها- أن هندًا بنت عتبة، قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)([4]). وما رواه معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال (تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت..) الحديث([5]). وما رواه جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال في خطبته الجامعة في حجة الوداع: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإنكم أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)([6]).
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم([7]).
وأما المعقول: فإن المرء ملزم بالنفقة على نفسه؛ لأن حفظها من الضرورات الشرعية الخمس، ولا يتصور أنه يمنع عن نفسه الطعام والشراب، فإن فعل ذلك فهو معتدٍ عليها، ولما كان ولده جزءًا منه، فإن إنفاقه عليه يعد من باب الإنفاق على نفسه، فإن قصر في ذلك عُدَّ مقصرًّا في حق نفسه، بل يعد معتديًا عليها، وقد أفاض الفقهاء في وجوب النفقة على الزوج لزوجه وأولاده:
ففي المذهب الحنفي: أن نفقة الأولاد الصغار على الأب لا يشاركه فيها أحد، كما لا يشاركه في نفقة الزوجة([8]).
وفي مذهب الإمام مالك: أن نفقة الزوجة على زوجها ما لم تكن ناشزًا ونفقة الولد على الوالد دون الأم، وقد أشير في ذلك إلى ما ورد في البخاري عن رسول الله ﷺ تقول لك المرأة: أنفق عليَّ، وإلا فطلقني.. ويقول لك ولدك أنفق عليَّ إلى من تكلني([9]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يجب على الزوج نفقة امرأته، والأصل فيه قول الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50]، وقول رسوله محمد ﷺ للرجل الذي سأله قائلًا: يا رسول الله، معي دينار (قال أنفقه على نفسك) قال معي آخر، قال: (أنفقه على ولدك) قال معي آخر، قال: (أنفقه على أهلك) الحديث([10])، وقوله أيضًا -عليه الصلاة والسلام-: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)([11]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجبر الرجل على نفقة ولده الذكور والإناث إذا كانوا فقراء، وكان له ما ينفق عليهم([12]).
وخلاصة المسألة: أن الأخت السائلة إن كانت قد بانت من زوجها بينونة صغرى، وتريد الرجوع إليه، فلها الحق أن تشترط ما تراه من شروط، أما إن كانت لا تزال في عصمته أو طلقت ولا تزال في العدة، وتريد أن تشترط على زوجها شروطًا لم تكن مشروطة عليه من قبل، فهذه خصومة مرجعها القضاء.
على أن هناك مسائل شرعية مهمة مناطها حق الزوجة على زوجها، ومنها عدم منعها من العمل إذا لم يكن فيه ضرر لها أو ضرر لزوجها، ومنها حقها في راتبها؛ لأنه جزء من مالها المستقل عن زوجها، وليس له منه إلا ما تطيب به نفسها، ومنها حق النفقة لها وولدها.
والله تعالى أعلم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة باب أجر السمسرة ورقمه (14) ج4 ص 527-528. وأخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله ﷺ في الصلح بين الناس، سنن الترمذي ج3 ص634-635، برقم 1352
([2]) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح، فتح الباري ج9 ص124.، قال الألباني في إرواء الغليل، (٦/٣٠٤): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([3]) انظر: حاشية رد المحتار ج3 ص145-146.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، فتح الباري ج4 ص473، برقم ١٢٢.
([5]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في حق المرأة على زوجها، برقم(٢١٤٢)، سنن أبي داود ج2 ص٢١٢. صححه الألباني في صحيح الترغيب، (١٩٢٩).
([6]) أخرجه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، برقم (1163)، سنن الترمذي ج3 ص467.، صححه الألباني في صحيح الجامع، (٢٠٦٨)، وأخرجه مسلم (١٢١٨) باختلاف يسير.
([7]) الإجماع لابن المنذر ص110.
([8]) شرح فتح القدير لابن الهمام ج4 ص412.
([9]) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي من تفسيره ج2 ص385 و399، وفي تفصيل النفقة عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج2 ص298 – 305، 315-316، والحديث أخرجه البخاري (٥٣٥٥) وقوله: “تَقولُ امرَأَتُك” فموقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، وقال شعيب الأرنؤوط، تخريج المسند لشعيب (٧٤٢٩) إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأوله مرفوع، وأما باقيه، وهو: تقول امرأتك.. الخ، فموقوف من كلام أبي هريرة.
([10]) أخرجه أبو داود بلفظ »تصدق« في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، برقم (1691)، سنن أبي داود ج2 ص57.، صححه الألباني في صحيح الترغيب، (١٩٥٨).
([11]) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، برقم (1692) ج2 ص57، وينظر: الحاوي الكبير ج15 ص3-11، والمهذب للشيرازي ج2 ص159، 166، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٦٢١٩).