والجواب: أن أفعال المكلفين تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
– الأوامر.
– النواهي.
– المباحات.
فالأوامر قد وضعها الله لعباده، وكلفهم القيام بها، ووعد-ووعده الحق- بمجازاتهم على عملهم، أو عدم عملهم بها، وقد ثبتت لهم هذه الأحكام من كتابه العزيز، ومن بلاغ رسوله محمد -ﷺ- لهم؛ فمنها ما مناطه العبادات، ومنها ما مناطه المعاملات، فما مناطه العبادات أساسه الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ووجوب طاعة الله، وطاعة رسوله، وأولي الأمر في الأمة، والبعد عن أفعال الجاهلية، وسلوك أصحابها، وغير ذلك مما هو معروف للمسلم من دينه بالضرورة.
وقد دل على هذا التكليف آيات متعددة من كتاب الله، منها قوله -عز وجل- في وجوب الإيمان: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم} [آل عمران:179]، وقوله في الإيمان برسله: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:171]، وقوله -عز وجل-: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد:7]، وقوله في وجوب طاعته وطاعة رسوله: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [آل عمران: 132]، وقوله في أمر النساء: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
كما دلت على هذه التكاليف سنة رسول الله محمد -ﷺ-؛ ففي حديث جبريل -عليه السلام- عن الإيمان قال: «يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله -ﷺ-: الإسلام أن تشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ فقال رسول الله -ﷺ-: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»([1])، وقول رسول الله -ﷺ- عن وجوب طاعته: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله..الحديث»([2])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- عن جلباب المرأة في حديث أم عطية: قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: «لتلبسها صاحبتها من جلبابها»([3]).
أما ما مناطه المعاملات من حل البيوع، وأداء الأمانات، والوفاء بالعقود والعهود، فبين في كتاب الله -عز وجل- وفي سنة رسوله محمد -ﷺ-:
ففي الكتاب عن حل البيوع قول الله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، وقوله -جل ثناؤه- عن أداء الأمانات: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء: 58]، وقوله عن الوفاء بالعقود: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]، وقوله -عز من قائل-: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا} [الإسراء: 34].
أما في السنة: فقول رسول الله -ﷺ- عن البيع: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»، وفي رواية أخرى: قال -عليه الصلاة والسلام-: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم»([4])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- عن أداء الأمانة: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»([5]).
وقوله -عليه الصلاة والسلام- عن العقود: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا»([6]).
أما النواهي فقد بينها الله لعباده، وكلفهم اجتنابها، وقد وضحت لهم أحكامها من كتابه العزيز، ومن بلاغ رسوله محمد -ﷺ- لهم؛ فمنها ما مناطه العبادات، ومنها ما مناطه المعاملات.
فما مناطه العبادات: تحريم الشرك والكفر والنفاق والرياء، ومحادة الله ورسوله، والتبرج، وغير ذلك مما هو معروف للمسلم من دينه بالضرورة.
والأدلة على ذلك كثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله محمد -ﷺ-، ففي الكتاب قول الله -تعالى- في الشرك: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، وقوله: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء:116]، وقوله في النفاق: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وقوله -جل ثناؤه- عن الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقوله في محادته ومحادة رسوله وفي حق الكافرين به: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِين} [المجادلة:5]، وقوله -عز وجل- في نهي النساء عن التبرج: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
أما السنة: فقول رسول الله -ﷺ- في الشرك: «إن الله -تعالى- يقول: أنا خير الشركاء، فمن عمل عملًا، فأشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك»([7])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في النفاق: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر»([8])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- عن اللحية: «أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى»([9])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في تبرج النساء: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها..الحديث»([10]).
وأما ما مناطه المعاملات، فتحريم الظلم والربا وبخس الحقوق، والإفساد في الأرض، وتحريم الخيانة، ونحو ذلك مما هو معروف للمسلم من دينه.
والأدلة على هذا من الكتاب والسنة كثيرة:
فمن الكتاب: قول الله -تعالى- في الظلم: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19]، وقوله -عز وجل- عن الربا: {حَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]، وقوله في النهي عن بخس الحقوق: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [الشعراء:183]، وقوله -جل ثناؤه- عن الخيانة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال:27].
أما من السنة: فقول رسول الله -ﷺ- عن الظلم في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»([11])، وقوله عن الربا: «إن الربا وإن كثر عاقبته إلى قل»([12])، وقد لعن رسول الله -ﷺ- آكِل الربا ومؤكِلهُ وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء»([13])، وفي بخس الحقوق نهى رسول الله -ﷺ- أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس([14])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة»([15]).
قلت: هذا غيض من فيض من أحكام الله لعباده، فاقتضى هذا أن كل أمر أو نهي ورد في كتاب الله، وثبت من سنة رسوله محمد -ﷺ-، أو من إجماع الأمة؛ فهو حكم قطعي، ليس للمكلفين خيار فيه؛ فإن هم أطاعوه فقد أطاعوا الله ورسوله، وإن هم عصوه فقد عصوا الله ورسوله، ولكل فعل جزاؤه؛ وهذا الحكم في قطعيته ووجوب العمل به لا يتغير بتغير الأزمان والأحوال؛ فأحكام العقيدة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغيرها من أركان الإسلام وأحكامه لا تتغير ولا تتحول، وأحكام المعاملات التي جاءت بتحريم الربا والوفاء بالعقود، وتحريم الفواحش وتحريم التبرج، وإكرام اللحى، وغير ذلك مما هو معروف من الدين بالضرورة، أحكام ثابتة لا تتغير بحال، ولا تتبدل بزمان أو مكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذا ما كان عليه سلف الأمة منذ عهد رسول الله -ﷺ- وصحابته-رضوان الله عليهم-، والتابعين لهم، ومن تبعهم بإحسان.
فالتبرج -وهو هنا مدار السؤال- قد أبطله الإسلام، فكان نساء الأمة أكثر ما يكنَّ حرصًا على ستر أجسادهن، والمبالغة في هذا الستر، فكن لا يخرجن من بيوتهن إلا لحاجة، ولا يفعلن إلا ما أباحه الشرع لهن، وكان سلف الأمة من الرجال أكثر حرصًا على الائتمار بكل أمر، والانتهاء عن كل نهي سمعوه أو بلغهم من كتاب ربهم، أو من سنة نبيهم محمد -ﷺ-؛ فكانوا يكرمون اللحى، ويحافظون حتى على الشعرة الواحدة منها؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الأمر والنهي يقتضيان مطلق الطاعة للآمر والناهي.
إن الذين يحاولون في هذا الزمان اعتساف النصوص، أو تطويعها، أو تفسيرها لمجاراة ثقافة أو حضارة أجنبية، أو الاستجابة لضغوط أصحابها، إنما يرتكبون بذلك إثمًا وخطيئة؛ فالثوابت لا تتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال؛ لأن تغيير ما لا يتغير بحكم أصله يعد هدمًا لهذا الأصل، وهذا منتهى الإثم والخطىئة؛ فتحريم الربا بين كل البيان، واضح كل الوضوح، وهذا التحريم لا يحتاج إلى تفسير أو تعليل لتحليله، وتحريم التبرج بين كذلك، ولا يحتاج إلى تفسير أو تعليل لتحليله، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن لا يحتاج كذلك إلى تفسير، ويقاس على ذلك كل الأحكام التي أرادها الله لعباده؛ لما فيه مصلحتهم في حالهم ومآلهم.
لهذا كان سلف الأمة يتوقفون عندما يكون في المسألة ولو مجرد شبهة يسيرة، بل كانوا يتورعون في الأخذ بالمباح مخافة أن يكون فيه شبهة أو وسيلة إلى غير المباح، عملًا بقول رسول الله -ﷺ-: «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس»([16]).
لقد سمعنا كثيرًا من يحتج بالقاعدة التي تقول: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”، كما سمعنا من يقول بأن كثيرًا من الأحكام يجب أن تتغير تبعًا لما جد على الحياة من تطور وتغير، وسمعنا كثيرًا من يقول: هذا زمان، وذاك زمان، ولكل زمان مفاهيمه وضروراته ومقتضياته، ونحو ذلك مما يلبس به على البسطاء من الناس.
نعم! الأحكام التي تتغير هي أحكام الاجتهاد المبنية على القياس أو المصالح المرسلة، أما الأحكام الشرعية التي جاءت بنصوص في كتاب الله، أو على لسان رسوله محمد -ﷺ- فهذه-كما ذكر-لا تتغير، ولا تتبدل أبدًا؛ لأنها جاءت تحكم سلوك الإنسان في كل زمان وفي كل مكان، وهذا هو ما أراده الله، وحكم به، وسنه لخلقه، مصدقًا لقوله -عز وجل-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة:50]، وقوله -تعالى-: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [فاطر:43].
هذا عن الأوامر والنواهي، أما المباحات فلا يطلب من المسلم فعلها ولا تركها، فإن فعلها فهي مباحة له، وإن تركها فليس عليه في تركها جناح، وهذه المباحات كثيرة، منها: السفر، والاتِّجار، والمضاربة، وممارسة الرياضة، والسباحة، ومختلف الألعاب، والتمتع والتلذذ بالطيبات من الطعام والشراب والمركب والملبس وحسن المظهر، وكل حسن من محاسن العادات.
والأصل في المباحات الكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، وقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [البقرة: 172]، وقوله -عز وجل-: {يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} [الأعراف: 31]، وقوله -عز من قائل-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
وأما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «إن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه»([17])، وعن عائشة -رضي الله عنها-قالت: “سابقني النبي -ﷺ-، فسبقته”([18])، وكان -عليه الصلاة والسلام- يتمتع بالطيبات، فيحب النساء، ويحب الطيب، ويحب العسل واللحم.
وأما المعقول: فإن الله حين أباح الطيبات للإنسان اقتضى ذلك عقلًا أن يستمتع بها، وهذا الاستمتاع عائد له هو؛ لأن الله غني عن أفعال عباده؛ فلا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، وشكرهم على هذه الطيبات سبب في زيادتها لهم، وكفرهم بها سبب لذهابها عنهم؛ لأن من مسلمات العقل أن يُجْزَى المُسبب بشكره من قبل المُسبب له، وهذا هو أساس قول الله -عز وجل-: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم: 7]، وكما أن الأفعال المشار إليها أعلاه مباحة في أصلها، إلا أنها مقيدة بما قد يرد على هذ الأصل من قيد؛ فالسفر مباح، ولكنه يكون محرمًا إذا كان لغرض الفساد؛ لأن الفساد من حيث الأصل محرم، والاتجار مباح، ولكنه يكون محرمًا إذا كان مبنيًّا على الربا؛ لأن الربا من حيث الأصل محرم، والطعام والشراب واللباس من المباحات، ولكنها مقيدة بعدم الإسراف؛ لأن الإسراف مذموم في أصله وفعله.
وخلاصة المسألة: أن أفعال المكلفين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأوامر، والنواهي، والمباحات؛ فالأوامر قد وضعها الله لعباده، وكلفهم القيام بها، ووعد بمجازاتهم على عملهم، أو عدم عملهم بها، وقد ثبتت هذه الأحكام في كتاب الله وفي سنة رسوله محمد -ﷺ-، فمنها ما مناطه العبادات، وهذا أساس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ووجوب طاعته وطاعة رسوله، وغير ذلك مما هو معروف للمسلم من دينه بالضرورة، ومنها ما مناطه المعاملات من حل البيوع، وأداء الأمانات، والوفاء بالعقود والعهود، وهذه الأحكام بينة في كتاب الله، وفي سنة رسوله محمد-ﷺ-.
أما النواهي فقد بينها الله لعباده، وكلفهم اجتنابها، وقد وضحت لهم أحكامها من كتابه العزيز، ومن بلاغ رسوله لهم، فمنها ما مناطه العبادات كتحريم الشرك، والكفر، والنفاق، والرياء، والتبرج، ومنها ما مناطه المعاملات كتحريم الظلم، والربا، وبخس الحقوق، والإفساد في الأرض، وتحريم الخيانة، ونحو ذلك مما هو معروف للمسلم من دينه بالضرورة.
فاقتضي هذا أن كل أمر أو نهي ورد في كتاب الله، وثبت من سنة رسوله محمد -ﷺ-، أو من إجماع الأمة؛ فهو حكم قطعي، ليس للمكلفين خيار فيه، فإن هم أطاعوه فقد أطاعوا الله ورسوله، وإن هم عصوه فقد عصوا الله ورسوله، وهذا الحكم في قطعيته، ووجوب العمل به لا يتيغير بتغير الأزمان والأحوال، فأحكام العقيدة، وأحكام المعاملات التي جاءت بتحريم الربا، والوفاء بالعقود، وتحريم التبرج، وإكرام اللحى، وغير ذلك من الأحكام المعروفة من الدين بالضرورة أحكام ثابتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما المباحات- القسم الثالث- من أفعال المكلفين فلا يطلب من المسلم فعلها، ولا تركها، فإن فعلها فهي مباحة له، وإن تركها فليس عليه في تركها جناح، وهذه المباحات كثيرة، منها السفر والاتجار والرياضة، ومختلف الألعاب، والتمتع بالطيبات من الطعام والشراب واللباس، ومع أن هذه الأفعال مباحة في أصلها إلا أنها مقيدة بما قد يرد على هذا الأصل من قيد، فالسفر مباح، ولكنه يكون محرمًا إذا كان لغرض الفساد، والاتجار مباح، ولكنه يكون محرمًا إذا كان مبنيًّا على الربا، وهكذا. والله -تعالى-أعلم.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله-سبحانه وتعالى-، وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج1 ص91-121، برقم (1).
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في معصية، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج6 ص523-525، برقم (32، 33).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى، فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني، ج1 ص504، برقم (324).
([4]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص479-484، برقم (80، 81، 82، 83، 84).
([5]) أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب «أد الأمانة إلى من ائتمنك»، سنن الترمذي، ج3 ص564، برقم (1264)، وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، برقم (3535)، سنن أبي داود، ج3 ص290، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٢٦٤).
([6]) أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله-ﷺ-في الصلح بين الناس، سنن الترمذي، ج4 ص635، برقم (1352)، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١٣٥٢).
([7]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج2 ص301، صحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تخريج شرح السنة، (٤١٣٧).
([8]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج1 ص274-276، برقم (106، 107).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى، فتح الباري، ج10 ص363، برقم (5893).
([10]) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج7 ص284-285، برقم (125).
([11]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج8 ص531-533، برقم(55).
([12]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب التغليظ في الربا، سنن ابن ماجة، ج2 ص767، برقم (2279)، حسن إسناده ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، (٤/٣٦٩).
([13]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي ج5 ص498-499، برقم (105، 106).
([14]) أخرجه ابن ماجة في كتاب التجارات، باب النهي عن كسر الدراهم والدنانير، سنن ابن ماجة، ج2 ص761، برقم (2263)، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٩٥٢١).
([15]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الأطعمة، باب التعوذ من الجوع، سنن ابن ماجة، ج2 ص1113، برقم (3354) ، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (1514).
([16]) أخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، سنن ابن ماجة، ج2 ص1409، برقم(4215)، ضعفه الألباني في غاية المرام، (١٧٨).
([17]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاءً إذا كان أوفق له، فتح الباري، ج4 ص246، برقم (1968).
([18]) أخرجه ابن ماجة في كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، سنن ابن ماجة، ج1 ص636، برقم (1979)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٦٢٣).