الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي فك الدَّين والتيسير على المعسر أجر عظيم، وفك الدين يكون إما بالعفو عنه وإما بإنظار المعسر إلى يسره، وفي هذا قال -عز وجل-: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، [البقرة: ٢٨٠]، وقال -عز ذكره-: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، [البقرة: ٢٧٢]، والآيات في فضل الصدقة كثيرة، أما في السنة فقول رسول الله – -صلى الله عليه وسلم- -: (مَن سَرَّه أن يُظِلَّه اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظِلُّه، فَلْيُيَسِّرْ على مُعسِرٍ، أو لِيضعْ عَنهُ)([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العَبدِ، ما كانَ العَبدُ في عونِ أخيهِ)([2])، وفي قصة أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- كما رواه سلمة بن الأكوع: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبيِّ – -صلى الله عليه وسلم- -، إذْ أُتِيَ بجَنَازَةٍ، فَقالوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقالَ: هلْ عليه دَيْنٌ؟ قالوا: لَا، قالَ: فَهلْ تَرَكَ شيئًا؟ قالوا: لَا، فَصَلَّى عليه، ثُمَّ أُتِيَ بجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قالَ: هلْ عليه دَيْنٌ؟ قيلَ: نَعَمْ، قالَ: فَهلْ تَرَكَ شيئًا؟ قالوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بالثَّالِثَةِ، فَقالوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قالَ: هلْ تَرَكَ شيئًا؟ قالوا: لَا، قالَ: فَهلْ عليه دَيْنٌ؟ قالوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، قالَ: صَلُّوا علَى صَاحِبِكُمْ، قالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عليه يا رَسولَ اللَّهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عليه([3]).
هذا في فضل فك الدين، أما فضل الصدقة الجارية كبناء المساجد، فواضح في قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، [التوبة:18]، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من بنى مسجدًا كمِفْحَصِ قَطَاةٍ أو أصغرَ بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ)([4])، فبناء المساجد صدقة جارية، وفيها قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات الإنسانُ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ؛ صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدْعو له)([5]).
فالصدقة فضلها عظيم وفيها نفع للمتصدق؛ لأن العبد يأتي يوم القيامة في ظلها؛ ولأنها تدفع البلاء كما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صدقتِه حتَّى يُقضى بينَ النَّاسِ)([6])، وقال أيضًا: (صَنائِعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، والصَّدقةُ خُفيًا تُطفِئُ غضَبَ الرَّبِّ)([7]). وفيها نفع للأمة لدلالتها على التماسك والتراحم بين أفرادها، فما وهنت ولا ضعفت أمة يعطف أغنياؤها على فقرائها.
فالحاصل: أن الصدقة تتفاضل، فمع أن في القليل أجرًا فإن في الكثير الأجر الأكثر، فكلما أنفق العبد كثر أجره وتوسع رزقه، فمع أن في فك الدين والتيسير على المعسر أجرًا إلا أن في الصدقة الجارية أجرًا عظيمًا، فالمساجد بيوت الله في الأرض، وعمرانها ببنائها وذكر الله فيها؛ مما ينفع العباد ويقيم ذكر الله في الأرض.
والله – تعالى- أعلم.
[1] -أخرجه الطبراني (1/304) (902) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(912).
[2]– أخرجه مسلم (2699)، وابن ماجه (225)، وأحمد (7427) مطولًا، وأبو داود (4946)، والترمذي (1930) واللفظ لهما، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7285) باختلاف يسير.
[3] رواه البخاري برقم (2289).
[4]– أخرجه ابن ماجه (738) والبخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/332) باختلاف يسير، وابن خزيمة (1292) واللفظ له، صححه الألباني في صحيح الترغيب، (٢٧١).
[5]– أخرجه مسلم (1631).
[6]– رواه ابن حبان في صحيحه رقمه (3310)، صححه السيوطي في الجامع الصغير، (٦٢٦٤).
-[7] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (6086)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم(5023).