سؤال من الأخت عائشة… ن من الجمهورية اليمنية تقول فيه: قتل شخص آخر عمدا، ولسبب ما هرب من السجن دون عقاب، فماذا يحق لأولياء القتيل أن يفعلوا؟.

حكم ما إذا قتل شخص آخر عمدا وماذا يحق لأولياء القتيل أن يفعلوا

الأصل أن الله حرم القتل تحريما مغلظا، وأوجب فيه العقوبة حسب أسبابه، ولهذا التحريم عدة أسباب:

أولها: أنه تعد على إرادة الخالق، وعصيان لأمره بما فرضه على خلقه من حرمة النفس، وحفظ كينونتها في قوله -عز وجل-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء:33]، وقوله تعالى-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].

وثاني الأسباب: أنه تعدٍّ على حق الإنسان في الوجود الذي منحه الله إياه من بين مخلوقاته، وبما أوجده له من العقل والنسل وحسن التصوير في قوله -عز وجل-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن:3]، فتحويله من الوجود إلى العدم بسبب القتل فيه ضرر له، واستخفاف عظيم بحقه، وقد حرمت شريعة الله الضرر في كل بواعثه وأسبابه.

وثالث الأسباب: أن قتل الإنسان بغير حق يعد إهدارا لحقه في عبادة الله وطاعته، كما قال -عز وجل-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات:56]، كما أنه إهدار لنسله واستمتاعه بالحياة كما قال -تعالى-: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72].

ورابع الأسباب: أن القتل فساد في الأرض، وعبث بفطرة الحياة، وقد حرم الله الفساد في الأرض؛ لما يؤدي إليه من خلل العلائق بين الناس، وفساد التعايش بينهم، وتسلط قويهم على ضعيفهم وفي هذا قال -جل ثناؤه-: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [الأعراف:85].

وقد استثنى الله من حرمة القتل وجود حق يبيح هذا القتل بأسباب، ومن هذه الأسباب: القصاص من المعتدي بالقتل العامد له، والأصل في هذا الكتاب والسنة والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، وفي هذا قال الإمام الرازي: “إن مجرد قوله: {إِلاَّ بِالحَقِّ} مجمل؛ لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو؟ وكيف هو؟، ثم إنه -تعالى- قال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} أي: في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل، وتقديره: كأنه -تعالى- قال: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصا صريحا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد، فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة”([1]).

أما السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه، التارك للجماعة»([2]).

وأما المعقول: فإن القاتل المتعمد للقتل يطال نفس غيره، ويحولها من الوجود إلى العدم، فيكون بذلك قد تعدى على حق غيره في الوجود، وإذا أُطْلِق هذا الفعل دون سبب يحول دون وقوعه أصبح لكل مفسد أن يطال غيره، ويحول وجوده إلى عدم، فإذا عرف هذا أن وجوده سيكون سببا لعدمه هو بسبب فساده امتنع عن التعدي على غيره، وهذه هي الحكمة الربانية في القصاص في قوله -تعالى-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 179].

قلت: ويثور سؤال الأخت عن الحكم في حال هروب القاتل أو إطلاق سراحه دون عقاب: هل يَقتص منه أولياء القتيل إذا وجدوه أو يطلبون من السلطة المسؤولة عنه وعنهم محاكمته، وتنفيذ ما يقتضيه الحكم الذي يصدر بحقه؟.

الأصل العام أن يكون استيفاء العقوبة لولي الأمر؛ لأن القتل جريمة تقع على حق الجماعة، ولما كان ولي الأمر يمثلها أصبح مسؤولا عن حراسة أمنها، وعقاب من يعتدي على هذا الأمن، فهو لهذا يقيم الحدود على أصحابها؛ فيستوفي حد الزنا، ويستوفي حد السرقة، وهكذا، غير أن استيفاء القصاص مستثنى من الأصل، فاقتضى هذا أن لولي القتيل المظلوم استيفاء القصاص بنفسه؛ استدلالا بقول الله -تعالى-: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33]، والمقصود بـ”السلطان” السلطة على القاتل، فله الخيار: إن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه بالدية، وإن شاء عفا عنه دون مقابل، ويؤيد هذا قول رسول الله -ﷺ- يوم فتح مكة: «ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: بين أن يقتل، أو يأخذ الدية»([3]).

والمقصود بالنهي عن الإسراف في القتل ألا يقتل بالمقتول ظلما غير قاتله، فقد كان العرب في جاهليتهم يقتلون غير القاتل، فإذا قتل رجل آخر عمدا عمِد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل، فقتله بوليه، وقد يقتل بوليه عدة أشخاص.

واستيفاء وليِّ القتيل القصاصَ لا يعني ترك الحرية له، بل لا يجوز له الاستيفاء إلا بإذن الإمام أو نائبه.

قال ابن بطال: “اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من حقه دون السلطان”([4]).

قلت: والسلطان هو ما يعني في الوقت الحاضر السلطة التنفيذية، واستيفاء القصاص بإذنها تقتضيه -بل توجبه- الضرورة؛ للأسباب التالية:

أولها: أن الجماعة أو الأمة محكومة بسلطة تقوم على رعاية مصالحها، وحفظ أمنها، وإيقاع العقاب على من يعتدي على هذا الأمن.

وثاني الأسباب: أن الأفراد لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم وأمنهم، فلا بد من سلطة تملك القوة للدفاع عنهم.

وثالث الأسباب: أن العقاب -سواءٌ أكان في القصاص أم كان في غيره- محكوم بوسائل لا يستطيع الأفراد القيام بها، فوجب أن يكون بإذن السلطة.

ورابع الأسباب: أن استيفاء ولي القتيل القصاصَ بنفسه ودون إذن السلطة قد يجعله يسرف في أخذ حقه، وهذا هو ما نهى عنه الله -عز وجل- في قوله: {فلا يٍسرٌف فٌي القتلٌ}، لهذا لا يجوز لأولياء القتيل في المسألة أخذ حقهم بأنفسهم، بل عليهم مطالبة السلطة المسؤولة عنهم بمحاكمة القاتل، وإيقاع العقوبة عليه حسب جريمته.

وخلاصة المسألة: أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من حقه دون إذن السلطة.

والله أعلم.

 

([1])   تفسير الفخر الرازي الشهير بالتفسير الكبير، للإمام محمد الرازي فخر الدين الشهير بخطيب الري ج19 ص201-202.

([2])  أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الديات، باب قول الله -تعالى-: ﴿أن النفس بالنفس والعين بالعين﴾، برقم (6878)، فتح الباري ج12 ص209.

([3])   أخرجه الإمام البخاري في كتاب الديات، باب «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين»، برقم 6880، فتح الباري للحافظ ابن حجر ج12 ص213.

([4])  انظر في هذا: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر، باب من أخذ حقه أي من جهة غريمه بغير حكم حاكم أو اقتص، أي: إذا وجب له على أحد قصاص في نفس أو طرف، هل يشترط أن يرفع أمره إلى الحاكم، أو يجوز أن يستوفيه دون الحاكم؟، ج12 ص225، وانظر في هذا-أيضا-: روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي، ج9 ص221، ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، للشربيني الخطيب، ج4 ص41، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج7 ص301، وفي مذهب الإمام أحمد: الاقناع لطالب الانتفاع للحجاوي ج4 ص115-116.