الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
ففي مسألة تزويج المرأة نفسها قال كثير من العلماء: لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها ولا تزوج غيرها، وإذا فعلت ذلك لا ينعقد النكاح، كما ذهبوا إلى أن الولاية شرط لصحة الزواج، وأن ولي المرأة أبوها أو أخوها أو غيرهما من أقاربها، أو السلطان إذا فقد هؤلاء، ووجه الاستدلال قول الله -تعالى-:( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) (النور:32)، وقوله: ( وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا) (البقرة:221)، ففي هذا دليل على أن الله خاطب بالنكاح الرجال ولم يخاطب به النساء، والأصل فيه أيضًا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” أيما امرأةٍ نُكحتْ بغيرِ إذنِ وليِّها؛ فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ”([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ” لا نِكاحَ إلَّا بوَليٍّ”([2])، كما استدلوا بقصة معقل بن يسار، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ المَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ([3]).
ففي الآية كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح دليل على اعتبار الولي في النكاح، وإلا لما كان لعضله لها معنى، وأنه لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال أن غيره منعه منه([4])، ووجه الاستدلال أيضًا أن المرأة قد لا تحسن من تختار من الرجال فتقع في خطأ بسبب هذا الاختيار، وعندئذ لا ينفع الندم فالولي يحفظها من سوء الاختيار ويكفيها شره، فهو أولى وأعلم بحالها، وقال الترمذي العمل عند أهل العلم على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “لا نكاح إلا بولي”([5])، وهو ما سار عليه الخلفاء الراشدون وجميع الصحابة والتابعين.
وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف، فقالا: إنه يحق للمرأة البالغة العاقلة مباشرة العقد بنفسها، سواء كانت بكرًا أم ثيبًا، ولكن يستحب لها أن تكل عقد زواجها لوليها؛ خشية عليها من التبذل إذا كانت التي تتولى العقد بنفسها مع الرجال الأجانب، هذا وجه الاستحباب، ولكن إذا عقدت لنفسها فليس لوليها أن يفرض عليها إلا في حالتين: إذا زوجت نفسها من غير كفء، أو كان مهرها أقل من مهر مثيلاتها، فإن زوجت نفسها بغير كفء فروي عن أبي حنيفة وصاحبه عدم صحة زواجها؛ منعًا لباب الخصومة، وهذا هو المفتى به في المذهب([6]).
ووجه الاستدلال في المذهب قول الله -تعالى-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) (البقرة:232)، وقوله -تعالى-: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) (البقرة:230)، فهاتان الآيتان -كما يقولون- تسند الزواج إلى المرأة، وأن الأحاديث التي وردت في منح الولاية للرجل يقصد بها المرأة ناقصة الأهلية، ووجه الاستدلال أيضًا أن للمرأة حق الاستقلال بعقد البيع وغيره، فلا فرق بين هذا العقد وعقد الزواج([7]).
قلت: ولكل استدلال مما أشير إليه نصيبه من الحجة، ولكن واقع الحال يجعل من (الولي) مصلحة للمرأة نفسها؛ ففي هذا الزمان تتوالى الفتن ومنها فتنة النساء، وما تتعرض له المرأة من الابتزاز والاستغلال، والمرأة كيان بشري تنتابه العواطف والرغبات، وليس كل الرجال أتقياء في تعاملهم مع المرأة، فإن كان معها ولي يساعدها في اختيار زوجها فهو أفضل لها، وأحوط لها من الفتنة، وأدوم لزواجها، وأحفظ لها في حياتها.
وليس المراد من الولي أن يكون غامطًا لحقها أو متعديًا على رغبتها أو مستغلًّا لولايته عليها، فهذا مما حرمه الله؛ ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: («لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت )([8]) والأيم من لا زوج لها، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: “الأيمُ أحقُّ بنفسِها من وليِّها، والبكرُ تُستأذنُ، وإذنُها صماتُها”([9]).
وفي حديث معقل بن يسار، وعبدِ اللَّهِ بنِ بُريدةَ عن أبيهِ قالَ: جاءت فتاةٌ إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- فقالت: إنَّ أبي زوَّجني ابنَ أخيهِ ليرفعَ بي خسيستَه، قالَ: فجعلَ الأمرَ إليها فقالت: قد أجزتُ ما صنعَ ولَكنِّي أردتُ أن أُعلِمَ النِّساءَ أن ليسَ إلى الآباءِ من الأمرِ شيءٌ([10]).
وحاصل القول: إن جمهور العلماء على وجوب الولي في النكاح، بينما يراه أبوحنيفة وصاحبه أبو يوسف من الاستحباب، فإذا زوجت المرأة نفسها -بكرًا كانت أم ثيبًا- فلها الحق في ذلك، ما لم يكن الزوج غير كفء أو كان مهرها أقل من مثيلاتها، وأقول: إنما يطمئن له القلب أن يكون الولي شرطًا في النكاح؛ لاعتبارات كثيرة ولمصلحة المرأة نفسها، خاصة في هذا الزمان الذي تكثر فيه الفتن.
والله –تعالى-أعلم.
[1] صحيح سنن أبي داود للألباني، رقمه (2083)، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (١١٠٢)..
[2] أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، وأحمد (19518). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1881)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (822) وقال: ولا يُعَلُّ بإرسالِ مَن أرسَلَه.
[3] صحيح البخاري كتاب النكاح باب من قال: لا نكاح إلا بولي حديث رقم (5130).
[4] فتح الباري ج9 ص94.
[5] سبق تخريجه.
[6] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج2 ص 232-237، وفتح القدير ج3 ص 157، والدر المختار ورد المحتار ج2 ص 395.
[7] – تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ج2ص118.
[8] – أخرجه البخاري برقم (5136).
[9] أخرجه مسلم برقم(1421).
[10] أخرجه ابن ماجه (1874)، قال الألباني في التعليقات الرضية، (١٤١/٢): رجاله رجال الصحيح.