سؤال من الأخت سهام من الجزائر، يقول: أخي دفع لي مبلغًا من المال، بضعة آلاف د.ج. كمساعدة مالية، ولكني خائفة أن يتراجع عن هبته بعد عدة سنوات، و يطالبني بإرجاع المبلغ. ما هو السبيل لضمان عدم عودته عن هبته؟

رد الواهب لهبته

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالهبة مشروعة بين الأقارب والأصحاب، وهي من باب  التحاب بينهم، وقد ندب إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ” تَهادَوا تحابُّوا”([1]) وقبل -عليه الصلاة والسلام- الهدية من صحابته، فعن عائشة -رضي الله عنه-  قالت :”كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ ويُثِيبُ عَلَيْهَا”([2]). وقد سأل نبي الله زكريا ربه أن يهبه ربه غلامًا، فيما حكاه الله عنه بقوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا،يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(مريم:2-6).

والهبة تمليك من الواهب للموهوب  بلا عوض،([3]) وتنعقد الهبة بالقبض، وعند جمهور الفقهاء لا تنعقد إلا بهذا([4])، وإذا شرط الواهب شرطًا في هبته للموهوب، كما لو وهبه مالًا لبناء مسجد أو التصدق بصدقة لزمه هذا الشرط.

واختلف الفقهاء -رحمهم الله- في مسألة رجوع الواهب عن هبته، فذهب الأحناف  إلى أنه يجوز  له الرجوع إذا لم يكن هناك مانع موجب، واستدلوا بقوله -تعالى-: (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)(النساء:86) والتحية هنا تفسر بالهدية بقرينة( أو ردوها)؛ لأن الرد إنما يتحقق في الأعيان لا في الأعراض؛ لأنه عبارة عن إعادة الشيء وهو غير متصور في الأعراض كالتحية.

 واستدلوا أيضًا بأثر عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- ” الواهبُ أحقُّ بهبتِه ما لم يُثبْ منها”([5]) أي يعوض، فقد دل الأثر أن الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه العوض([6]).

وعند المالكية([7]) والشافعية([8]) والحنابلة([9]) عدم جواز  رجوع الواهب في هبته، واستدلوا بما روي عنِ ابنِ عُمرَ وابنِ عبَّاسٍ -رضِيَ اللهُ عنهُما- قالَا: “لا يَحِلُّ للرَّجُلِ أنْ يُعطِيَ عَطيَّةً ثمَّ يَرجِعَ فيها، إلَّا الوالِدَ فيما يُعطِي وَلَدَه”([10]). وقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: ” الذي يَعُودُ في هِبَتِهِ كالكَلْبِ يَرْجِعُ في قَيْئِهِ”([11]).

هذا في عموم المسألة، أما عن سؤال الأخت، فإذا كانت قد قبضت المال فالأصل أنه لا يجوز لأخيها الرجوع في هبته، هذا إذا كان قد أعطاه إياها على سبيل الهدية، أما إذا كان أعطاها المال على شكل قرض أو نحوه حق له الرجوع فيما أعطى.

والله -تعالى- أعلم.

[1]   أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (594)، وأبو يعلى (6148)، والبيهقي (12297). قال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/77): لم يصِحَّ. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/117): يُروى من طرقٍ. وجَوَّد إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/53)، وحَسَّن إسناده ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/1047)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/100): اختُلِفَ فيه على ضمام. وحَسَّن الحديث الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (594).

[2] أخرجه البخاري (2585).

[3] ينظر: ((المغني)) لابن قُدامة (6/41)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 171)، ((كنز الدقائق)) للنَّسَفي (ص: 536)، ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (8/3).

[4] ينظر: المبسوط12/57، وحاشية الدسوقي 4/101، والمهذب 1/447، والمغني والشرح الكبير 6-250-251، والإنصاف 7/147.

[5] إرواء الغليل(1614).

[6] ينظر: بدائع الصنائع 6/127، وتكملة فتح القدير 7/129.

[7] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدَّرْدِير)) (4/110)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (8/205، 206).

[8] ((روضة الطالبين)) للنووي (5/379)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (6/309).

[9] ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مُفلِح (5/289)، ((الإنصاف)) للمَرْداوي (7/110)، ((كشَّاف القِناع)) للبُهُوتي (4/313).

[10] أخرجه أبو داود (3539)، والترمذي (2132) واللفظ له، والنسائي (3690)، وابن ماجه (2337)، وأحمد (2119). قال الترمذيُّ: حسَنٌ صحيحٌ. وصحَّح إسنادَه ابنُ عبدِ البَرِّ في ((الاستذكار)) (6/244)، وأحمد شاكر في ((تحقيق مسند أحمد)) (7/242)، وصحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2132)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (641).

[11] أخرجه البخاري (2622) واللفظ له، ومسلم (1622).