الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن حيث العموم ليست الطهارة من الحدث الأكبر شرطًا لانعقاد الصيام، فمن أخّر الغسل إلى الصبح صح صومه، وعامة الصحابة والعلماء -رضوان الله عليهم- على ذلك، والأصل فيه ما ورد عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: أن رجلًا قال لرسول الله ﷺ وهو واقف على الباب وأنا أسمع: يا رسول الله إني أصبحت جنبًا وأنا أريد الصيام. فقال ﷺ: «وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم» فقال الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله ﷺ وقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي»([1]).
وما روته أيضًا أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان رسول الله ﷺ يصبح جنبًا، من جماع غير احتلام، في رمضان، ثم يصوم([2]). وما رواه أيضًا سمي مولى أبي بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث بن هشام، أنه سمع أبا بكر بن عبدالرحمن بن الحارث ابن هشام يقول: كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، فَذُكِرَ له أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم، فقال مروان: أقسمت عليك يا عبدالرحمن، لتذهبن إلى أم المؤمنين، عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك، فذهب عبدالرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة، فسلم عليها ثم قال: يا أم المؤمنين، إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم.
قالت عائشة: ليس كما قال أبو هريرة يا عبدالرحمن، أترغب عما كان رسول الله ﷺ يصنع؟ فقال عبدالرحمن: لا والله. قالت عائشة: فأشهد على رسول الله ﷺ أنه كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم. ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة، فسألها عن ذلك، فقالت مثل ما قالت عائشة. قال، فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم، فذكر له عبدالرحمن ما قالتا، فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب، فلتذهبن إلى أبي هريرة، فإنه بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه ذلك، فركب عبدالرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة، فتحدث معه عبدالرحمن ساعة، ثم ذكر له ذلك، فقال له أبو هريرة: لا أعلم بذلك إنما أخبرنيه مخبر([3]). والسؤال هو عما هو المراد ب(الصبح)، أهو سائر اليوم أم بدايته؟ فالأخت السائلة تسأل عن الحكم فيمن أخر الغسل إلى الظهر، فما هو إذا الصبح؟ قال في المصباح المنير: الصبح هو الفجر، والصباح مثله، وهو أول النهار، والصباح أيضًا خلاف المساء. قال ابن الجواليقي: الصباح عند العرب من نصف الليل الآخر إلى الزوال، ثم المساء الآخر نصف الليل الأول([4])، وفي مذهب الإمام أحمد ذكر المرداوي في الإنصاف أنه إذا أصبح جنبًا لم يفسد صومه لو أخر الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر واغتسل، صح صومه بلا نزاع، وكذا الصحيح من المذهب، لو أخره يومًا كاملًا: صح صومه ولكن يأثم، وهذا المذهب من حيث الجملة، ومن حيث التفصيل يبطل صومه حيث كفرناه بالترك بشرطه، وحيث لم يكفر بالترك لم يبطل صومه ولكن يأثم([5]).
قلت: ولعل الصواب أن المراد بالصبح وقت الفجر وهو نفس الصبح، كما قال الله -عز وجل-:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير:18].أي بدأ واضحًا، فما كان رسول الله ﷺ وهو المعلم لأمته أن ينتظر بالغسل إلى النهار، وهو الذي يؤم أمته لصلاة الفجر، وهو الطاهر المطهر والمتطهر في شأنه كله، فالحق أن على الجنب -ذكرًا أو أنثى- أن يغتسل من حدثه عند طلوع الفجر أو بعده بقليل، حتى يتطهر ويصلي صلاة الفجر في وقتها، فإن أخر الغسل ففاتته وقت الصلاة فقد أثم، وكان في حكم من توعدهم الله بالويل إذا سهوا عن صلاتهم في قوله -عز وجل-: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون} [الماعون:4-5].
وخلاصة المسألة: أن الطهارة ليست بشرط لانعقاد الصيام فرضًا أو نفلًا، وعلى الجنب أن يغتسل من حدثه عند طلوع الفجر أو بعده بقليل، حتى يستطيع أن يتطهر ويصلي صلاة الفجر في وقتها. وإلا أثم وأصبح في حكم من توعدهم الله إذا سهوا عن صلاتهم.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) صحيح مسلم، (١١١٠)، موطأ الإمام مالك يحيى الليثي ص196 رقمه (642).
([2]) صحيح مسلم، (١١09)، موطأ الإمام مالك يحيى الليثي ص196 رقمه (642).
([3]) موطأ الإمام مالك يحيى الليثي ص2196 رقمه (642)، قال شعيب الأرنؤوط في تخريج مشكل الآثار، (٥٣٥): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([4]) انظر في مذهب الإمام أبو حنيفة كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني ج2 ص292 والاختيار لتعليل المختارج1 ص133.