الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، أما بعد:
ففي هذه المقدمة الإشارة إلى أن الزنا كبيرة من الكبائر، لما فيه من هتك العرض واختلاط الأنساب وفساد الأخلاق والتعدي على الحرمات، وقد بين الله عز وجل لعباده حرمة هذه الكبيرة، مما هو معلوم للمسلم من دينه بالضرورة، ومع سوء هذه الكبيرة إلا أن الله عز وجل لم يجعل المذنب يقنط من رحمته، ففتح له باب التوبة ووصف ذاته العلية بالتواب والرحيم بقوله جل في علاه: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:104)، ودعا عباده إلى التوبة بقوله تقدس اسمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (التحريم:8)، وكما فتح عز وجل لعباده باب التوبة فتح لهم باب الاستغفار من ذنوبهم وتعهد بأنه لن يعذب المستغفرين له بقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال:33)، وقال لنبيه ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الحجر:49).
وبعد أن فتح الباري جل في علاه لعباده باب التوبة وباب الاستغفار، فتح لهم بتبديل سيئآتهم حسنات، فبعد أن وصف عباده بصفات منها أنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله، ولا يزنون وأن من تاب منهم من ذنوبه، وآمن وعمل صالحا سوف يبدل سيئاته حسنات، قال عز وجل عن صفاتهم: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ) (الفرقان:68-70).
فعلى من زنى أن يتوب إلى الله توبة نصوحا بشروطها، وأن يستغفر الله عز وجل، ويجعل ما حدث منه بين الله وبينه، ولا يفشي فعله فإن أفشاه عرض نفسه للعقوبة، المهم التوبة إلى الله.
هذا في عموم المسألة، أما أقوال الفقهاء فيها فكما يلي:
ذهب الإمام أبوحنيفة وأصحابه: بأن من زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها، وهو قول عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- ومنهم: عمر بن الخطاب، وعمران بن الحصين، وبن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبي بن كعب، وعائشة، وابن عباس في الأصح، وبه قال أيضا عدد من التابعين، ومنهم: الحسن البصري، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن الأوزاعي، وطاووس، ومجاهد، وعطاء([1])، وهذا القول رواية عن الإمامين مالك وأحمد حيث قالا بتحريم هذا النكاح([2]).
وذهبت المالكية في رواية أخرى بأنه: يعتبر في التحريم بالصهر النكاح الحلال، أو الذي فيه شبهة، أو اختلف فيه، فإن كان زنى محضا لم تقع به حرمة المصاهرة، كمن زنى بامرأة فإنه لا يحرم تزويجها على أولاده في المشهور؛ وفاقا للشافعي وخلافا لأبي حنيفة([3]) وهو قول ابن شهاب الزهري وربيعة، وإليه ذهب الليث ابن سعد([4]).
وعند الإمام الشافعي وأصحابه: إن وطء الزنى لا يتعلق به تحريم المصاهرة بحال، فإذا زنى الرجل بامرأة، لم تحرم عليه أمها ولا بنتها، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما.ومن التابعين: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري، ومن الفقهاء:، ربيعة، وأبو ثور([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يثبت بوطء الحرام تحريم المصاهرة، فإذا زنى بامرأة حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمها وابنتها، كما لو وطئها بشبهة أو حلالا، ولو وطئ أم امرأته أو بنتها حرمت عليه امرأته([6]). وقال المرداوي رحمه الله: “وطء الحرام محرم .. وصرح القاضي في تعليقه: أنه حرام، وأما ثبوته بالوطء الحرام: فهو المذهب”([7]).
هذه خلاصة أقوال الفقهاء رحمهم الله، قول بجواز زواج الزاني بابنة الأم التي زنى بها، وقول بتحريم هذا الزواج لكل من القولين نصيبه من البحث عن الصواب.
قلت: ولعل ما يؤيد القول بالتحريم ما يتعلق بأطراف هذه المسألة فالزاني إذا تزوج بابنة من زنى بها سيواجه مشكلة حين يستذكر خطيئته، وهو يرى زوجته التي زنى بأمها ماثلة أمامه، وأما الأم المزني بها فتستذكر خطيئتها حين ترى ابنتها عند زوج سبب لها هذه الخطيئة، وأما البنت المراد الزواج منها فترى أمها بهذه الخطيئة، ولأنه ليس لهذه البنت ذنب فيما حدث، فلا يجب أن تؤذى بهذا الزواج، وقد يكون الأمر أصعب على والدها وإخوانها حين يصاهرهم رجل موصوف بالزنى من أم ابنتهم، وهذه المصاهرة محرمة أصلا، فهذه الإشكالات تؤثر في القول بالتحليل أو التحريم لما قد ينتج عنها من المصاعب لهذه الأطراف في المسألة، ولا شك أن زواج هذه البنت من غير من زنى بأمها أفضل لها، وأفضل لأمها، و لمن زنى بها.
وخلاصة المسألة: أن على الرجل والمرأة أن يتوبا إلى الله توبة نصوحا، ويكثرا من الاستغفار، فإن الله عز وجل قد وعد ووعده الحق أنه لا يعذب المستغفرين من ذنوبهم، وهنا أقول أن ما ذهب إليه عدد من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة بتحريم زواج الرجل من ابنة من زنى بأمها هو الصواب إن شاء الله.
والله تعالى أعلم.
[1]– ينظر: البناية شرح الهداية لبدرالدين العيني ج 5 ص33، و المحيط البرهاني ج ج3ص63.
[2] -ينظر: الذخير للقرافي ج4ص265، و الاستذكار لابن عبد البر 5 / 463، 464، والمغني لابن قدامة ج7ص117 والشرح الكبير ج20ص 286.
[3]– القوانين الفقهية لابن جزي ص138.
[4] -الاستذكار 5 / 463، 464.
[5] ينظر: الحاوي الكبير للماوردي ج 9ص 215-216،والبيان في مذهب الإمام الشافعي ج 9ص254.
[6] المغني لابن قدامة ج7ص117 والشرح الكبير ج20ص 286، والمبدع شرح المقنع ج 6ص130.
[7] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي 20/286.