سؤال من الأخت ب.ة. من الجزائر، تقول فيه: هل الفحص الطبي إجباري؟ وما حكمه في الشرع؟؛ لأنه يعد نازلة من نوازل الفقه.

حكم الفحص الطبي قبل الزواج

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالزواج قد يتعرض لمشكلتين أو إحداهما:

المشكلة الأولى: أمراض الوراثة، فقد لا يعلم الزوجان أو أحدهما عن هذه الأمراض إلا بعد الإنجاب و نمو الأولاد، وحينئذ يتمنيان ألا يكون لهما ولد مريض، والأصل في الوقاية من أمراض الوراثة الكتاب والسنة، ففي الكتاب قول الله -تعالى- فيما حكاه عن نبيه زكريا: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:38)، وقوله -تقدس اسمه-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف:46)، وقوله عن دعاء المؤمنين: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (الفرقان:74)، وقوله -عز ذكره- عن ولدي نبيه إبراهيم: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات:101)، وما قالته الملائكة له -عليه السلام-: (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) (الحجر:53)، وفي هذه الآيات إشارة ودلالة على فضل صحة الولد وسلامته من الأمراض، فطيب الولد وحلمه وعلمه دليل على أنه صحيح، وأما الإشارة إلى الوراثة في السنة فأمره -عليه الصلاة والسلام- للمسلم أن يتخير لنطفته بقوله: ( تخيَّروا لنُطَفِكم، فانكِحوا الأكفاءَ و أَنكِحوا إليهم)([1])، وما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ امْرَأَتي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، وإنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقالَ له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (هلْ لكَ مِن إبِلٍ؟) قالَ: نَعَمْ، قالَ: ما أَلْوَانُهَا؟ قالَ: حُمْرٌ، قالَ: فَهلْ فِيهَا مِن أَوْرَقَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: فأنَّى هُوَ؟ قالَ: لَعَلَّهُ يا رَسولَ اللهِ، يَكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له، فَقالَ له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَهذا لَعَلَّهُ يَكونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ له)([2])، وقد أشار الفقهاء -رحمهم الله- إلى عدد من الأمراض الوراثية ومنها العنة، والعته والخصاء والرتق والجذام ورائحة الفم، ورتبوا على هذه الأمراض عددًا من الأحكام، منها ما يقضي بفسخ عقد الزواج.

ومن أمراض الوراثة المعاصرة تكسر الدم المنجلي، وأنيميا البحر المتوسط، وقد بينت خريطة جينات الإنسان (الجينوم البشري) العوامل الوراثية للإنسان، وقد بلغت هذه الجينات عدة آلاف قد يكون لاكتشافها آثار كبيرة في معرفة علاج أمراض الوراثة.

فاقتضى هذا التوكيد على حقيقة الوراثة وتأثيرها في الولد، وهو ما أصبح محلًّا للدراسة والتحصين الطبي، وما ينبغي للزوجين أن يعلماه عن حالتهما الوراثية، والاستعداد لها، بحيث يكون ولدهما سليمًا من الأمراض والعاهات.

المشكلة الثانية: التي قد تواجه الزوجين الأمراض المعدية، وقد تكون هذه الأمراض أشد في هذا الزمان، من حيث كثرتها وخطورتها؛ بسبب الاتصال بين الأمم، والسياحة والتجارة، وظهور مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وفيروس الكبد. والأصل في اجتناب هذه الأمراض ونحوها والحذر منها الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة:195)، وقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29)، فهاتان الآيتان عامتان في حكمهما، وتدلان على أن على العبد ألا يضر نفسه، فهو مؤتمن عليها، فلا يأتي من الأفعال ما يضرها.

وأما في السنة: فقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (فِرَّ من المجذومِ فراركَ من الأَسدِ)([3])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا: ( لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ)([4])، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه-: (إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا مِنْها)([5]).

هذا بإيجاز في عموم المسألة، وما دلت عليه الآيات والأحاديث من وجوب الوقاية من الأمراض الوراثية والأمراض المعدية، فقد يكون الزوج مثقلًا بأمراض الوراثة والأمراض المعدية، كمرض الإيدز والأمراض الجنسية الأخرى، فلو علمت الزوجة بما هو عليه لما أقدمت على الزواج منه، والأمر كذلك للزوج، فلو علم عن أمراض زوجته الوراثية أو المعدية لما أقدم على الزواج منها، فالحق أن يعلم كل منهما عن صاحبه؛ مما يتطلب الفحص الطبي قبل زواجهما، هذا الفحص هو المشروع للزوجين لمصلحتهما، حتى يكون كل منهما على علم عن الآخر.

والله – تعالى- أعلم.

 

[1] أخرجه ابن ماجه (1968)، والحاكم (2687)، والبيهقي (14130) وصححه الألباني في صحيح الجامع(2928).

[2] أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500) واللفظ له.

[3] السنن الصغير للبيهقي(3/65) وصححه السيوطي في تدريب الراوي(2/207).

[4] أخرجه البخاري(5771).

[5] أخرجه البخاري (5728)، ومسلم (2218).