التعامل مع أهل الكتاب، وأكل طعامهم، والزواج من نسائهم مما أباحه الإسلام حكمًا، والأصل في هذا قول الله -تعالى-: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، والتعامل مما تقتضيه العلاقة بل الضرورة بين المسلم وغيره، وما لم يرد نص ينفي هذا التعامل أو يقيده فهو مباح وفقًا للقاعدة الشرعية: “الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم”([1]).
والتعامل باب واسع، يشمل التجارة في وجوهها المختلفة، ويشمل الاتصال، والتنقل، ويشمل العمل ونحوه.
وقد تعامل رسول الله -ﷺ- وصحابته مع المشركين، فاتخذ عبدَ الله بن الأريقط -وهو مشرك- دليلًا له إلى المدينة([2])، وتعامل مع اليهود، وتوفي -عليه الصلاة والسلام- ودرعه مرهونة عند يهودي([3]).
وتعامل المسلمون مع الشعوب التي امتزجوا بها، سواءٌ من أهل الكتاب أو من غيرهم، وكانوا يرون في هذا التعامل وسيلة للدعوة للدين، وكان لتسامحهم وعلاقاتهم وتعاملهم مع الشعوب أثر في دخولها أفواجًا فيه، كما حدث في آسيا وإفريقيا وأوروبا.
والتعامل أخذ وعطاء، فقد يكون طرف التعامل آجرًا، وقد يكون مأجورًا، وتجري العلاقة بينهما حسب ما تقتضيه القواعد المكتوبة، أو الأعراف المتداولة، ولا ينفي التعامل أو يقيده إلا ما كان يتعارض مع أحكام الإسلام، أي: أن الأصل فيه أن يكون محله مباحًا، فما كان خلاف ذلك يعد محرمًا على المسلم في تعامله مع غيره، سواءٌ مع أهل دينه أم مع غيرهم.
وقد تعرض الفقهاء لمسألة تعامل المسلم مع غير المسلم:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: إذا استأجر ذمي مسلمًا ليخدمه جاز، ولكن يكره ذلك؛ لأن الاستخدام إذلال، وليس للمسلم أن يذل نفسه خصوصًا بخدمته غير المسلم، وأما الجواز فلأنه عقد معاوضة، فيجوز كالبيع([4]).
وعند الإمام أبي حنيفة: لو استأجر الذمي رجلًا؛ ليحمل له الخمر، فله الأجر، ولو استأجر ذمي مسلمًا؛ ليحمل له الخمر، ولم يقل: ليشرب، أو قال: ليشرب جازت الإجارة، وكذا لو استأجر ذمي دابة من مسلم، أو سفينة؛ لينقل عليها الخمر، جاز، وخالفه في كل ذلك صاحباه: أبو يوسف ومحمد، فقالا بعدم جواز هذه الإجارة([5]).
قلت: وهو الصحيح؛ لأن محل الإجارة هذا هو الخمر، وهذه محرمة في أوجهها المختلفة من عصر وبيع ونقل وخلافه.
وفي مذهب الإمام مالك: يكره للمسلم أن يؤجر نفسه أو ولده المسلم أو دابته لغير مسلم، ومحلها إذا كان المسلم يجوز له فعل ذلك لنفسه، كالخياطة، والحرث، وما أشبه ذلك، وأما ما لا يجوز للمسلم فعله لنفسه كعصر الخمر، ورعي الخنازير، وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز أن يؤجر نفسه وما ذكر من الكافر، فإن فعل فإن الإجارة ترد قبل العمل، فإن فاتت بالعمل فتؤخذ الأجرة من الكافر، ويتصدق بها على الفقراء، أو بالمسلم إلا أن يعذر بسبب الجهل ونحوه، فلا تؤخذ منه([6]).
وفي مذهب الإمام الشافعي قولان:
القول الأول: جواز إجارة المسلم لغير المسلم؛ استدلالًا بما روي أن عليًّا -رضي الله عنه- أجر نفسه لرجل من اليهود.
والقول الثاني: عدم الجواز؛ لأنه عقد يتضمن حبس المسلم، فصار كبيع العبد المسلم منه([7]).
وفي مذهب الإمام أحمد: روى الأثرم عن الإمام أحمد أن إجارة المسلم للذمي لخدمته لا تجوز، فقال: إن أجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز، وإن كان في عمل شيء جاز.
وذكر الإمام ابن قدامة أنه لا تجوز للمسلم إجارة نفسه؛ لأنها عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر، وإذلاله، أو استخدامه، أشبه البيع، حيث إن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة، واستخدامه، والبيع لا يتعين فيه ذلك، فإذا امتنع منه فلأن يمنع من الإجارة أولى …، فأما إن أجر نفسه منه في عمل معين في الذمة، كخياطة ثوب، وقصارته، جاز بغير خلاف نعلمه، ودليل ذلك: إجارةُ عليٍّ وأحد الأنصار ليهودي، ولأن هذا العقد عقد معاوضة، لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه، فأشبه مبايعته([8]).
هذه أقوال الفقهاء في هذه المسألة بإيجاز، فدل ما سبق على أنه يباح للمسلم العمل عند غير المسلم بشرطين:
أولهما: ألا يكون في عمله ما يتعارض مع أحكام دينه، فلا يجوز له التعامل بالمحرمات كبيع الخمر، أو العمل في نوادي القمار، أو رعي الخنازير، أو بيعها، ونحو ذلك مما حرم الإسلام التعامل فيه.
وثانيهما: ألا يكون في عمله إذلال أو استخدام مهين له، كتعرضه للسب، أو التعرض لدينه في شخصه، أو التنقص منه، ونحو ذلك مما يؤثر في كرامته.
قلت: وربما لم تعد مسألة الإذلال في العمل واردة في هذا العصر من حيث العموم؛ لأن العمل في أعمه وأغلبه لم يعد لشخص بعينه، بل لصالح المؤسسات والشركات الكبرى التي لا يعرف العامل دين أصحابها ولا جنسياتهم.
فاقتضى ما سبق ذكره جواز عمل المسلم عند غير المسلم بالشرطين المذكورين آنفًا، ويترتب على هذا إباحة ما يستحقه من أجور، كراتب التقاعد ونحوه بسبب عمله.
والله أعلم.
([1]) الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي، ص60.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة إذا لم يوجد أهل الإسلام، فتح الباري، ج4 ص517، برقم (2263).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي -ﷺ-والقميص في الحرب، فتح الباري، ج6 ص116، برقم (2916).
([4]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج4 ص189.
([5]) الفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، ج4 ص508-509.
([6]) الخرشي على مختصر سيدي خليل مع حاشية العدوي، ج7 ص19-20.
([7]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1 ص395.
([8]) المغني للإمام ابن قدامة، ج8 ص135.
قلت: وقصة إجارة عليٍّ والأنصاري-رضي الله عنهما-ليهودي أو يهودية لم تصح، وقال الشيخ ناصر الدين الألباني في معرض حكمه على القصة المشار إليها بعد ذكر رواياتها وأسانيدها: “وجملة القول أن الحديث ضعيف؛ لشدة ضعف طريقه”، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، ج5 ص313-315.