الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، أما بعد:
فإن العبد يؤاخذ على ما يكسبه قلبه من خير وشر، فالعبد مدار الفعل وما يعتقده من حسن الفعل أو سوئه، ففي الأيمان مثلًا هناك لغو واعتقاد . أما الأيمان اللغو فإن الله لا يؤاخذ عليها؛ لأنه إذا قال العبد: والله وتالله في أمر مّا ولا يقصد اليمين بمعناها الاعتقادي فلا يؤاخذ على هذه اليمين، ولكن إذا كان يعتقد ما قال، بمعنى أنه يحلف على أمر مّا وهو يقصد ما وراءه آخذه الله عليه. والأصل فيه قوله -تعالى- : (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ)(المائدة:89) أي أن المؤاخذة على الجد في اليمين وليس على الهزل فيه . والأمر كذلك في الخطأ، فإن الله لا يؤاخذ عليه وإنما يؤاخذ على العمد، فمن كان يقود السيارة مثلًا وأخطأ وهو يقودها فأصاب إنسانًا لم يكن يعرفه ولم يكن يقصده فهذا خطأ لا يؤاخذ عليه ديانة، إلا من قبل سوء قيادته، ولكن إذا تعمد دهس إنسان تحول الفعل إلى العمد ويؤاخذ عليه. والأصل فيه قول الله -تعالى- : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)(الأحزاب:5). إذًا فالفعل يؤاخذ عليه العبد حسب ما في قلبه وعبرت عنه نفسه، هذا في الكتاب، أما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن القلب إذا صلح، صلح الجسد كله؛ لأنه الباعث للخير أو الشر. والأصل فيه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ)( ). ومن الأمثلة في ذلك قصه الأنصاري الذي قال فيه رسو ل الله -صلى الله عليه وسلم-: (يطلع عليكم الآن من هذا الفجِّ رجلٌ من أهل الجنة)، قال: فطلع رجلٌ من أهل الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد علَّق نعلَيْه في يده الشمال، فسلَّم، فلما كان الغد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثلِ حاله الأول، فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تَبِعه عبدُالله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحَيْتُ أبي، فأقسمت ألّا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضيَ الثلاث فعلتَ، قال: نعم، قال أنس: كان عبدالله يُحدِّث أنه بات معه ثلاثَ ليالٍ، فلم يره يقومُ من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارَّ انقلب على فراشِه، وذكر الله، وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضَتِ الثلاثَ، وكِدْتُ أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين والدي هجرة ولا غضب، ولكني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ثلاث مرات: (يَطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنة)، فطلَعتَ ثلاث مرات، فأردتُ أن آوي إليك؛ لأنظرَ ما عملُك، فأقتديَ بك، فلم أرَك تعملُ كبيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ما هو إلا ما رأيتَ، قال: فانصرفتُ عنه، فلما ولَّيْتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أَجِدُ في نفسي على أحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسدُه على ما أعطاه الله إيَّاه، فقال عبدالله: هذه التي بلغَتْ بك، هي التي لا نطيق)( ).
هذا في عموم المسألة، أما عن سؤال الأخت فإن العبد مؤاخذ بما يكسبه قلبه وما فيه من خير أو شر، وفي هذا قال الله -عز وجل-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(الزلزلة:7-8).