سؤال من الأخت (المرشدة الدينية) من الجزائر، تقول: سيدة بالغة خمسًا وخمسين سنة، توفي زوجها و الآن بلغت سن الاستفادة من راتبه، مع العلم أنه كان يعمل في فرنسا، و تقول: الآن تقدم لخطبتي رجل سنّه خمس وسبعين سنة، اشترطت عليه عدم العقد المدني حتى أستمر في أخذ راتب تقاعد زوجي المتوفى، بمعنى أنه عقد شرعي فقط، طبعًا مع شهود. فهل يجوز لها هذا؟

حكم عدم تسجيل العقد رسميا للتمكن المرأة من استلام راتب زوجها المتوفى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، أما بعد:

فالحديث عن هذه المسألة حديث عام حول ما قد يلجأ إليه العبد من التحايل والتجاوز على القواعد والأحكام التي تضعها دولته، والأصل في هذا التحريم لعدة أسباب: منها: أن القواعد والأحكام المشروعة التي تسنها الدولة –أي دولة- تلزم المخاطبين بها إلزامًا شرعيًّا لا يجوز التحايل أو التجاوز عليها، فقد أمر الله بطاعة ولي الأمر الذي أصدرها، في قوله -جل في علاه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، كما أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بطاعة هذا الولي في قوله -كما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: “مَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطَاعَنِي، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصَانِي”([1]).

ومن هذه الأسباب: أن التحايل للحصول على منفعة غير مشروعة يعد غلولًا، وهذا الغلول محرم في قول الله -تقدس اسمه-: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].

والأحاديث من السنة في تحريم الغلول كثيرة، منها تحذير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عن الغلول، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: كانَ علَى ثَقَلِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، رَجُلٌ يُقَالُ له: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “هو في النَّارِ”. فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قدْ غَلَّهَا([2])، ومنها ما رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لَمَّا كانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أقْبَلَ نَفَرٌ مِن صَحابَةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فُلانٌ شَهِيدٌ، حتَّى مَرُّوا علَى رَجُلٍ، فقالوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فقالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “كَلّا، إنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّها، أوْ عَباءَةٍ”([3]).

ومن هذه الأسباب: أن التجاوز على القواعد والأحكام بقصد الحصول على المال العام أشد حرمة من التحايل على المال الخاص؛ لأن الأول يتعلق بحق العامة، أما الثاني فيتعلق بحق الفرد، وكلاهما محرم، ولكن المال العام أشد حرمة كما ذكر.

ومن هذه الأسباب: أن التحايل على القواعد والأحكام يفضي إلى الفساد وسوء السلوك، ناهيك ما يؤدي إليه من نزع البركة من المال.

هذا بإيجاز في العموم، أما سؤال الأخت فإذا كان التحايل على القواعد والأحكام التي وضعتها الدولة، بقصد الحصول على تقاعد الزوج المتوفى فهذا لا يجوز -حسبما ذكر-.

والواجب على المسلم أن يتجنب المال الحرام، ويبرئ عرضه من الشبهات؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: “إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ”([4]).

فإذا عف المسلم واستغنى بالله عفه الله وأغناه؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: “ومَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ”([5]).

والله –تعالى- أعلم.

 

[1] أخرجه البخاري (2957)، ومسلم (1835).

[2] أخرجه البخاري(3074).

[3] أخرجه مسلم (114).

[4] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له

[5] رواه البخاري (1469) ، ومسلم (1053).