الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد، أما بعد:
ففي حج المعتدة أو المطلقة خلاف بين بعض الفقهاء رحمهم الله، فذهب أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى القول بعدم جواز حج المعتدة؛ لأن الحج لا يفوت بينما تفوت عدة والوفاة([1])، وقيل إن عددًا من الصحابة -رضوان الله عليهم- يقولون بهذا الرأي، ومنهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وروي ذلك عن عثمان ابن عفان -رضي الله عنه-([2]).
أما أصحاب مذهب الإمام مالك فيقولون إذا خرجت المعتدة وأحرمت للحج أو العمرة، ثم حدث لها عدة بأن توفي زوجها، تبقى على حجها أو عمرتها ولا ترجع([3])، وفي مسائل الإمام بن حزم عن المعتدة عدة الوفاة وعدة المطلقة قال: “ولهن أن يحججن في عدتهن، وأن يرحلن حيث شئن”([4])، وذكر الإمام ابن قدامة أن بن هبيرة نقل عن الأئمة مالك والشافعي وأحمد من أنه إذا خافت المعتدة فوات الحج إن جلست لقضاء العدة جاز لها المضي فيه([5]).
قلت: هذا مختصر القول في الخلاف، والواجب فيه المفاضلة بين من عليها عدة وفاة أو طلاق، وبين ما أوجب الله عليها من الحج فريضة من فرائضه على عباده في قوله جل في علاه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97]، مما يفهم منه وجوب الحج عينا على كل مسلم ومسلمة، ما لم يكونا غير مستطيعين، فإذا قيل بفوات العدة في حال الحج قيل أيضا بفوات الحج، فالمعتدة لا تضمن أن تنتظر عاما لكي تحج، فقد تموت وفي ذمتها ركن من أركان الإسلام، وهذا الركن دين ويفترض في الدين سرعة الوفاء به، فلما جاءت المْرأَة الخثعمية إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حتَّى ماتَتْ؛ أفَأَحُجُّ عَنْها؟ قالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْها؛ أرَأَيْتِ لو كانَ علَى أُمِّكِ دَيْنٌ أكُنْتِ قاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ؛ فاللَّهُ أحَقُّ بالوَفاءِ([6]).
إن العدة حق للزوج ووفاء من الزوجة لزوجها، ناهيك عما توجبه من استبراء الرحم، ولكن هذا يقابله حق أعظم هو حق الله على عبد من عباده، فلعل الصواب أن تعجل المعتدة لأداء ركن من أركان الإسلام، وهو ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ” أيُّها النَّاسُ، قد فرض اللهُ عليكم الحَجَّ، فحُجُّوا”([7])، وفي حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال عليه الصلاة والسلام: “من أراد الحجَّ فليتعجَّلْ فإنَّهُ قد يمرضُ المريضُ وتضلُّ الضالَّةُ وتعرِضُ الحاجَةُ “([8]).
فالحاصل أن الحج دين لله على عباده وهذا الدين أحق أن يقضى، ولن يفوت إن شاء الله المعتدة أجر عدتها.
والله تعالى أعلم.
[1] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي و((حاشية الشلبي)) (2/4)، ((الفتاوى الهندية)) (1/219)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (1/545، 2/486)، ((التاج والإكليل)) للمواق(4/163)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/263)، ((روضة الطالبين)) للنووي (8/417)و ((المغني)) لابن قُدامة (8/167، 168)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/385).
[2] ((المغني)) لابن قُدامة (8/167، 168).
[3] ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (1/545، 2/486)، ((التاج والإكليل)) للمواق(4/163).
[4] ” المحلى بالآثار” 10/74.
[5] ” المغني ” (11 / 303).
[6] أخرجه البخاري (1852).
[7] أخرجه البخاري (7288) مختصراً، ومسلم (1337) باختلاف يسير.
[8] أخرجه أبو داود (1732) مختصراً، وابن ماجه (2883)، وأحمد (1834) واللفظ لهما وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة برقم(2349).