الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فتحديد الربح في التجارة يتم عن طريقين: الطريق الأول: تحديد الربح عن طريق تحديد الأسعار، وتقوم الدول بتحديد هذه الأسعار خاصة الأساسية منها؛ حتى يكون المشتري على علم بأن سعر سلعة ما هو ما حددته الدولة، فيشتريها وهو مطمئن إلى أن هذا السعر هو السعر المناسب، وتقوم الدول بهذا التحديد خشية استغلال التجار، وهذا التحديد غالبًا ما يكون مناسبًا للتاجر والمشتري؛ لأن تدخل الدولة في هذا لمنفعتهما، فلا يضار التاجر في تجارته، ولا المشتري في شرائها.
واختلف العلماء -رحمهم الله- في جواز التسعير، فمنهم من يقول بعدم جوازه؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن ذلك فقال: ” إنَّ اللَّهَ هوَ المسعِّرُ القابضُ الباسطُ الرَّازقُ”([1])، ومنهم من يرى جوازه خشية ظلم بعض الناس لبعضهم كما يشاء، ومن ذلك استغلال التجار، خاصة في أزمات الحروب وقلة السلع، فيطال الناس ضرر، وهذا مما حرمه الله في قوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].
وعلى هذا يكون التسعير ضمانًا وحماية للمشتري، بعدم زيادة التاجر على سعر بضاعته دون حق، وفيه أيضًا ضمان للتاجر في عدم بخسه حقه، فيبيع بضاعته بسعر معلوم و معقول.
الطريق الثاني: تحديد الربح عن طريق التاجر نفسه، دون تدخل من أحد، فقد يكون هذا التحديد معقولًا حين ينصف التاجر من نفسه فيرضى بالربح المعقول، وهذا التاجر هو المراد بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.”([2]).
وقد ثبت أن الربح اليسير هو الأفضل في الاتجار؛ لأن المشترين يتكاثرون على الشراء فيزاد بيع التاجر ويزداد ربحه، ولكن التاجر قد لا ينصف من نفسه فيحاول بيع بضاعته دون اعتبار للمشترين، فيظلمهم ويغبنهم في شرائهم، وهو ما ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حق هذا النوع من التجار بقوله: ” إِنَّ التُجَّارَ هُمُ الفُجَّارَ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَوَ لَيسَ قَد أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلِكِنَّهُم يُحَدِّثُونَ فَيَكذِبُونَ، وَيَحلِفُونَ فَيَأثَمُونَ”([3]).
فالحاصل أن الاتجار يجب أن يكون عن تراض بين المتبايعين لقول الله -تعالى-: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، والمراد بالتراضي قبول البيع بينهما عن رضا وعدم غصب أو استغلال؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( دعوا النَّاسَ يرزقُ اللَّهُ بعضَهم من بعضٍ)([4])، ولكن هذا مقيد بعدم استغلالهم في تبايعهم، وأن التجارة أمانة، والتَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
والله – تعالى- أعلم.
[1] أخرجه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وأحمد (14057) باختلاف يسير، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٤٥١).
[2] رواه الترمذي (1209) وقال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وقال ابن تيمية كما في “المستدرك على مجموع الفتاوى” (1/163) : إسناده جيد.
[3] رواه أحمد (3/428) والحاكم (2/8) وقال صحيح الإسناد ، وصححه محققو المسند . والألباني في “السلسلة الصحيحة” (366).
[4] صحيح سنن ابن ماجه للألباني رقمه(1783).