الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمنع الحيض بغرض إكمال الصيام:
الحيض هو الدم الذي يخرج من رحم امرأة سليمة من المرض أو الصغر، وهو خلاف الدم الخارج من الفرج مما يعرف بالاستحاضة([1]). ولعل المقصود من سؤال الأخت المحافظة على صيام شهر رمضان، دون قطع أيامه بالحيض، حيث شاع هذا أخيرا بين عدد من النساء المسلمات.
وقد تردد القول في إيقاف الحيض بين الجواز والكراهة والتحريم وفقا للمقصود منه.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: قول بأنه يجوز للمرأة سد فم رحمها وفي قول آخر يحرم ذلك عليها إذا كان بغير إذن زوجها([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: يكره شرب الدواء لتأخير الحيض بقصد العمرة، وذلك خشية الضرر على جسم المرأة([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: يجوز لأصحاب الأعذار استعمال ما يبطئ الحمل مدة، ولا يقطعه من أصله، وإن كان لغير عذر كُرِه([4]). يقول البجيرمي: «أما ما يبطئ الحبل مدة، ولا يقطعه من أصله فلا يحرم كما هو ظاهر، بل إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضا وإلا كره»([5]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجوز شرب دواء مباح لقطع الحيض مع أمن الضرر، وقيل لا يباح إلا بإذن الزوج، وقيل يستأذن الزوج والصحيح من المذهب جوازه مطلقا إذا أُمِن الضرر([6]).
قلت: والأظهر في قطع الحيض في شهر رمضان الجواز على أن يكون ذلك بدواء مباح وألا يكون فيه ضرر على صحة المرأة، فإن كان فيه ضرر عاجل أو آجل حرم فعله؛ لأن الله حرم الضرر بالنفس أو ايذائها بأي فعل في قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
فإذا كان منع الحيض بقصد منع الحمل مدة معينة، فهذا لا يجوز إلا بإذن الزوج لما فيه من حرمانه من الولد مع رغبته فيه. أما إذا كان القصد من تناول الدواء منع الحمل مطلقا، فهذا محرم كما سنرى.
تناول الدواء بقصد منع النسل بالكلية:
قد تلجأ المرأة بمفردها أو بموافقة زوجها إلى منع نسلها مطلقا لأسباب عدة، منها: الخوف من آثار الحمل ومضاعفاته دون أن يكون لذلك سبب موجب. ومنها الخوف من تربية الأطفال ونفقتهم ونحو ذلك من الأسباب التي ترتبط عادة بمشكلات نفسية أو اجتماعية. فأيًّا كانت هذه الأسباب فإن منع النسل بالكلية يعد محرما ما لم يكن ذلك لسبب شرعي مانع كالمرض.
والأصل في هذا الكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب: فأمر الله تعالى الرجال بمباشرة النساء لابتغاء الولد في قوله عز وجل: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، وقوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، وقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]. فاقتضى هذا الأمر بالزواج وهذا يستتبع حكما ابتغاء الولد فمنع النسل من أصله، يعد مخالفة لأمر الآمر وعصيانا له وخروجا عليه. وقد تأكد هذا بتعظيم الله لحق الولد وتحريم قتله إما خشية الانفاق عليه أو لأي سبب آخر وذلك في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الإسراء: 31]، وقوله عز من قائل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33].
وأما السنة: ففي حديث معقل بن يسار أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني اصبت امرأة ذات جمال وحسب وأنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: (لا). ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)([7]).
وأما المعقول: فإن الله لما خلق الإنسان أراد منه عبادته وإعمار الأرض وإحيائها مدة معلومة ومقدرة، وهذا لا يتأتى إلا بالتكاثر والتتابع عليها، وقد جعل الله التزاوج بين الذكر والأنثى سببا طبيعيا لهذا التكاثر، فاقتضى ذلك عقلا أن ينتج عن هذا التزاوج نسلٌ يجعل الإنسان موجودا على الأرض إلى أجل معلوم.
قلت: وعند عامة الفقهاء لا يجوز قطع النسل بالكلية لمنافاته لمقتضى شرع الله وحكمته؛ ففي مذهب الإمام أبي حنيفة لا يجوز استعمال أو تناول الأدوية التي تقطع النسل، يقول صاحب مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: «وأما استعمال دواء لمنع الحمل فهو حرام»([8])، وقد أكد هذا المعنى في الفتاوى الهندية بأن خصاء بني آدم حرام بالاتفاق([9])، فكل ما يؤدي إلى قطع النسل والذرية محرم.
وفي مذهب الإمام مالك لا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله أو يقطعه، فقد قال البرزلي: «وأما ما يقطع الماء أو يسد الرحم فنص ابن العربي أنه لا يجوز»([10]). وقال الجزولي: «ولا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله»([11]).
وفي مذهب الإمام الشافعي يحرم استعمال ما يقطع الحبل من
أصله، كما أكد ذلك صاحب حواشي تحفة المحتاج وغيره من فقهاء الشافعية قائلين: «ويحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله كما صرح به كثيرون وهو ظاهر..»([12]).
وفي مذهب الإمام أحمد مثل ذلك حيث يقول صاحب الإقناع لطالب الانتفاع: «ولا يجوز ما يقطع الحمل»([13]). وقال الإمام المرداوي: «قال في الفائق: لا يجوز ما يقطع الحمل»([14]).
وينبني على ما سبق أنه لا يجوز للمرأة أو زوجها فعل ما يكون فيه قطعا للنسل مطلقا؛ لما في ذلك من منافاة لشرع الله وحكمته في الخلق، أما إذا كان منع النسل مؤقتا بمدة معينة خوفا من أن تكون كثرة الحمل تضعف المرأة أو تسبب لها مرضا، أو كان هذا المنع أيضا مؤقتا بمدة معينة بقصد تمكين الوالدين من تربية أولادهما ونحو ذلك فهذا لا بأس به.
وخلاصة المسألة: أنه يجوز منع الحيض في شهر رمضان على أن يكون ذلك بدواء مباح، وألا يكون فيه ضرر عاجل أو آجل على صحة المرأة.
ولا يجوز منع النسل من أصله لما فيه من المنافاة لشرع الله وحكمته في الخلق، ويجوز منعه مؤقتا بمدة معينة إذا كان لعذر موجب كالتعب أو المرض أو لتربية الولد.
والله -تعالى- أعلم
([1]) التعريفات للجرجاني ص99، وأنيس الفقهاء للقونوي ص63-64.
([2]) حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار: شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان ج3 ص176.
([3]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي ج3 ص168.
([4]) حواشي تحفة المحتاج للشرواني وابن قاسم ج8 ص241.
([5]) البجيرمي على الخطيب، ج4 ص40.
([6]) المغني لابن قدامة ج1 ص450، وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج1 ص218، والإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي، ج1 ص110، وكتاب الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي، ج1 ص281، والإنصاف للمرداوي، ج1 ص383.
([7]) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي ج6 ص32-33، وقد أورده العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج20 ص221، باب طلب الولد، وقال: «رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه من رواية حفص ابن أخي أنس رضي الله تعالى عنه».
([8]) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لعبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي، ج1 ص463.
([9]) الفتاوى الهندية في مذهب أبي حنيفة النعمان لجماعة من علماء الهند، ج5 ص357.
([10]) مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب، ج3 ص477، وانظر حاشية الرهوني، ج3 ص64.
([12]) حواشي تحفة المحتاج للشرواني والعبادي، ج8 ص241، وانظر بجيرمي على الخطيب ج4 ص40.
([13]) الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي، ج1 ص110.
([14]) انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ج1 ص383، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج1 ص383.