الجواب: الطيرة من التطير، وهو التشاؤم من طير أو غيره. وأصله أن العرب في جاهليتهم كانوا يتشاءمون في أمورهم؛ فإذا أراد أحدهم سفرًا أو همَّ بأمر قصد الطير في عشه فطيّره، فإن طار يمنة تيمن به ومضى فيما هَمَّ به، ويسمى هذا (سائحًا) . وإن طار الطير يسرة تشاءم ورجع عما هَمَّ به، ويسمى هذا (البارح) . كما كانوا يتشاءمون باتجاه الظباء إن كان يمنة تيمنوا، وإن كان يسرة تشاءموا، والحال كذلك في الغراب ويسمونه (البين)، فيتشاءمون من صوته، بل من رؤيته، ومن رؤية (البومة) .
وهذا الفعل محرم بنص الكتاب والسنة. أما الكتاب، فقول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون} [الأعراف: 131]. وقوله -عز وجل-: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُون} [يس: 81-91]. وفي الآية الأولى إخبار من الله تعالى بأن فرعون وقومه إذا أصابهم خصب وسعة رزق قالوا: أعطينا هذا بما نستحقه، وإن أصابهم قحط وجدب تشاءموا بموسى ومن معه، فنسبوا لهم ما أصابهم تشاؤمًا منهم بهم. وهذا افتراء منهم أنكره الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ}، أي أن ما أصابهم كان من عند الله، وليس بسبب موسى ومن معه، ولكنهم جهلة لا يعرفون، ولو كانوا يعرفون لأيقنوا أن ما يصيب العباد إنما هو من عند الله عز وجل وقضاؤه وتدبيره.
وفي الآية الثانية أمر من الله تعالى لنبيه أن يبين للمشركين قصة أصحاب القرية([1])، فقد أرسل لهم نبي الله عيسى رسولين يبلغانهم رسالة الله، ودعوتهم إلى الحق، وترك عبادة الأوثان، فكذبوهما وآذوهما، فأرسل إليهم رسولًا ثالثًا يعززهما، ويؤكد لهم دعوة الله فكذبهم أهل القرية، فقال لهم الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُون}، فردوا عليهم قائلين {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} بسبب انقطاع المطر عنا بسببكم. فقال لهم المرسلون{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ،أي أن ما أصابكم إنما هو بسبب كفركم وذنوبكم وشؤمكم على أنفسكم.
فاقتضى هذا أن التطّير أيًّا كان سببه، يعد محرمًا؛ فإذا كان المتطير يعتقد في صدق تطيره؛ فيرى للطير أو الدابة أو نحو ذلك تأثيرًا في عقيدته فقد كفر، وقد يؤدي به ذلك إلى الشرك إذا اعتقد أن ذلك ينفع أو يضر من دون الله؛ ذلك أن ما يصيب الإنسان من نفع أو ضر إنما هو من عند الله، وبحكمته وإرادته، وليس للطيور ولا للبشر أو غيرهم تأثير فيما يقع للإنسان من خير أو شر.
وأما تحريم التطير في السنة، فقول رسول الله ﷺ: (لا طيرة وخيرها الفأل)([2]). وقوله عليه الصلاة والسلام: (الطيرة شرك)([3]) وقوله: (أقروا الطير على مكناتها)([4]). وفي هذا نهي عن تطييرها كما كان يفعله المشركون في الجاهلية. وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول) فقال عرابي: يا رسول الله فما بال الأبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها؟ فقال رسول الله r : (فمن أعدى الأول)([5]).
ويرد على مسألة (العدوى) حديث رسول الله r: (لا يورد ممرض على مصح)، وفي هذا يقول الإمام النووي: «.. وفي رواية أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا (عدوى)، ويحدث عن النبي r أنه قال: (لا يورد ممرض على مصح)، وأمسك عن حديث (لا عدوى) فراجعوه فيه، وقالوا له: إنا سمعناك تحدثه، فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة t : فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر».
قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان. قالوا: وطريق الجمع أن حديث (لا عدوى) المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده، أن المرض والعاهة تعدي بطبعها، لا بفعل الله تعالى. وأما حديث (لا يورد ممرض على مصح) فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل من الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره؛ فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله. وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره؛ فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعين المصير إليه ولا يؤثر نسيان أبي هريرة لحديث (لا عدوى) من وجهين: أحدهما: أن نسيان الراوي للحديث، الذي رواه لا يقدح في صحته عند جماهير العلماء، بل يجب العمل به. والثاني: أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة؛ فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك وابن عمر عن النبي r. ويقول الإمام النووي: «وحكى المازري والقاضي عياض عن بعض العلماء: أن حديث (لا يورد ممرض على مصح) منسوخ بحديث (لا عدوى)، وهذا غلط لوجهين:
أحدهما: أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين ولم يتعذر بل قد جمعنا بينهما.
والثاني: أنه يشترط فيه معرفة التاريخ وتأخر النسخ، وليس ذلك موجودًا هنا، وقال آخرون: حديث (لا عدوى) على ظاهره وأما النهي عن إيراد الممرض على المصح فليس للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة، وقبح صورته وصورة المجذوب، والصواب ما سبق»، انتهى كلامه([6]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا صفر) قيل: إن العرب كانوا يتطيرون من شهر صفر؛ لأنه كان الشهر الذي تبدأ فيه الحرب بعد المحرم، وقيل: إنهم كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر وهو النسيء. وقيل: إن المقصود هو دود في البطن يهيج عند الجوع، ويقتل صاحبه، ويرون أن هذا الدود أخطر من الجرب، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا هامة) فهي البومة إذا وقفت على دار قيل: إن ذلك بداية خرابها، أو نعي بعض أهلها. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا نوء) تحريم القول بأن المطر ينزل بسبب نوء معين، وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)([7]). وقوله عليه الصلاة والسلام (ولا غول) نفي لما كان العرب في الجاهلية يعتقدون أن نوعًا من الشياطين يسمى الغول كان يقف في الطرقات، فيضل الناس عن الطريق فيهلكون. وليس المراد من الحديث نفي وجود الغول، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها، أي أنها لا تستطيع أن تضل أحدًا([8]).
ويجب التفريق بين الطيرة والفأل؛ فالطيرة -كما سبق ذكره- حرمت لكون المتطير يجعل لتطيره أثرًا فيما يفعله، فيؤثر ذلك في عقيدته. وأما الفأل: فهو كما قال رسول الله r: (الكلمة الحسنة)؛ ذلك أن النفس بطبعها ميالة إلى الكلمة الحسنة، وإزاحة الهم والغم، والحزن عنها، لهذا كان من دعاء رسول الله r التعوذ من الهم والغم والحزن([9]). فإذا كان الإنسان يتفاءل بالخير، فيؤمل في الله أن يغنيه من الفقر، أو يشفيه من المرض، أو يرزقه ولدًا صالحًا أو علمًا أو نحو ذلك، فإن ذلك مما يدخل السرور على قلبه، وعلى العكس من ذلك المتطير؛ فإذا كان هذا يتطير بسبب دابة أو طير فإن ذلك مما يدخل الكآبة والحزن على نفسه، فيبقى مهمومًا قلقًا، ومضطربًا في نفسه وسلوكه.
كما تجب الإشارة إلى ما قد يحصل للإنسان من شؤم أو ضرر بسبب شيء مّا فيتجنبه، فيكون ذلك استثناء من تحريم الطيرة، ومن ذلك ما روي أن رسول الله r قال: (الشؤم في الدار والمرأة والفرس)([10]). والشؤم هنا -كما يقول العلماء([11])- ليس في الشيء ذاته؛ وإنما هو في سلوكه، أو ما ينتج منه؛ فالدار قد تكون مشئومة إما بسبب جار سيئ يؤذي من يسكنها، وإما بسبب آخر قد تعافه النفس، كما لو كانت مغصوبة مثلًا. والمرأة ليست شؤمًا في ذاتها، فقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير من خلقه، وصوره فأحسن تصويره، وإنما تكون مشئومة بسبب فعلها، كما لو كانت غير صالحة، أو بذيئة، أو مؤذية لزوجها، أو نحو ذلك مما يدخل الحزن على نفسه فيكون فراقها خيرًا له. ويقاس على ذلك الدابة وما في حكمها.
قلت: ولا يزال التطير يلازم بعض المسلمين؛ فهناك من لا يزال يتطير من الغراب، والبومة، ومن يوم الثلاثاء أو الأربعاء. وهناك من يتطير من رقم معين كرقم (ثلاثة عشر) كما هو معروف عند الغرب الذي يتشاءم إنسانه من هذا الرقم. وهناك من يتطير من رؤية من فقد إحدى عينيه، ومن الزواج من المرأة التي مات عنها زوجها، ومن الصبي الذي يولد في يوم معين، ومن الحاكم إذا لم ينزل المطر في زمانه، أو تكثر الأضرار في زمن حكمه. كما أن هناك من لا يزال يذكر الغول، ويخوف به صبيانه، ويعتقد أن المطر إذا نزل في نوء معين فستصاب الأرض بقية السنة بالجدب والقحط، وهكذا من المعتقدات التي أبطلها الإسلام، وحذر منها؛ لما لها من تأثير في عقيدة المسلم؛ فالله هو النافع والضار، ولا ينزل بالمسلم من حادثة إلا وقد كتبها الله في اللوح المحفوظ، وعلى المسلم أن يتفاءل خيرًا فيحسن ظنه بالله، ويتوكل عليه، وفي هذا قال -عز وجل-: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. وقال رسول اللهr في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي)([12]). فليظن المسلم بربه خيرًا ويتوكل عليه، فهو حسبه وكافيه.
وخلاصة المسألة: أن الطيرة هي التشاؤم، وهي محرمة بنص الكتاب والسنة؛ ذلك أن العرب في جاهليتهم إذا همَّ أحدهم بأمر أخرج الطير من عشه ليطير، فإن طار يمينًا تيمن به، وإن طار شمالًا تشاءم مما همَّ به.
ولهذا قال رسول الله r : (لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول)، والمراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده: أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، والمراد به أيضًا نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن البومة شؤم، وأن صفر الشهر أو الدود في البطن يقتل صاحبه. وقال عليه الصلاة والسلام: (الطيرة شرك)، فإذا كان المتطير يعتقد في صدق تطيره، فيرى للطير أو الدابة أو نحوهما أثرًا في عقيدته فقد كفر، وقد يؤدي به ذلك إلى الشرك إذا اعتقد أن ذلك ينفع أو يضر من دون الله.
ويجب التفريق بين الطيرة والفأل؛ فالطيرة محرمة، وأما الفأل فهو كما قال رسول الله r: (الكلمة الحسنة)، ذلك أن النفس بطبعها ميالة إلى هذه الكلمة، وإزاحة الهم والغم والحزن عنها. كما تجب الإشارة إلى ما قد يحصل للإنسان من شؤم أو ضرر بسبب شيء مَّا، فيتجنبه، فيكون ذلك استثناء من تحريم الطيرة، ومن ذلك قول رسول الله r: (الشؤم في ثلاثة: في الدار، والمرأة، والفرس). ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الشؤم ليس في هذه المذكورات ذاتها، وإنما فيما يحصل منها أو بسببها؛ فشؤم الدار قد يكون بسبب جارها حين يؤذي من يسكنها، وشؤم المرأة بسبب سلوكها.. وهكذا.
لقد أبطل الإسلام التشاؤم، وعلى المسلم أن يتفاءل دائمًا بالخير، ويحسن ظنه بالله ويتوكل عليه، فهو حسبه وكافيه.
([1]) قيل إن القرية هم أهل أنطاكية وكان أهلها من اليهود واليونانيين، تفسير القرآن العظيم، ج٣ ص٤٤٥.
([2]) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج٤١ ص٨١٢-٩١٢.
([3]) أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة، ج٢ ص٠٧١١، برقم (٨٣٥٣)، صححه الألباني في صحيح الترغيب (٣٠٩٨)..
([4]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج٦ ص١٨٣، وأبو داود في كتاب الأضاحي، باب في العقيقة، سنن أبي داود، ج٣ ص٥٠١، برقم (٥٣٨٢)، صححه الألباني في صحيح الجامع (١١٧٧).
([5]) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج٤١ ص٣١٢-٦١٢.
([6]) شرح النووي على صحيح مسلم، ج٤١ ص٣١٢-٤١٢.
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب قول الله تعالى {وتجعلون رزقكم أنَكم تكذبون}، فتح الباري، ج٢ ص٦٠٦-٧٠٦، برقم (٨٣٠١)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بنوء كذا، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج١ ص٦٩٢-٧٩٢، برقم (٥٢١).
([8]) شرح النووي على صحيح مسلم، ج٤١ ص٦١٢-٧١٢.
([9]) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من غلبة الرجال، فتح الباري، ج١١ ص٧٧١، برقم (٣٦٣٦).
([10]) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج٤١ ص٠٢٢-١٢٢.
([11]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ج٤١ ص٩١٢-١٢٢.
([12]) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}، فتح الباري، ج٣١ ص٥٩٣، برقم (٥٠٤٧).