الجواب: هذا السؤال تردد كثيراً من بعض الإخوة حول الفرق بين الإسلام والإيمان؛ وهو أيضاً سؤال سبق أن كثر الحديث عنه في الماضي، كما كثر الجواب عنه.
والأصل في هذا تعريف رسول الله r في الحديث الذي رواه عمر ابن الخطاب بقوله: بينما نحن جلوس عند رسول اللهrذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبيr، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال:يا محمد:أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله r:(الإسلام أن تشهد ألا إلَه إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) قال:صدقت. قال فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال:فأخبرني عن الإيمان؟ قال:(أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال:صدقت. قال:فأخبرني عن الإحسان؟ قال:(أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، إلى قوله:ثم انطلق فلبث ملياً، فقال:(يا عمر أتدري من السائل؟) قلت:الله ورسوله أعلم، قال:(فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)([1]).
وعلى هذا فالتفريق بين الإسلام، والإيمان من وجهين:
الوجه الأول:الإسلام بمعناه الشامل:هو الاستسلام لله تعالى بتوحيده، وطاعته وفق ما جاء به نبيه ورسوله محمدr . فإذا أقر المكلف بالشهادتين عد مسلم حكماً، وإذا أدى بقية أركان الإسلام، وما يتبع هذه الأركان من الأفعال الظاهرة المعلومة من الدين بالضرورة كالطهارة للصلاة والطهارة من الجنابة عد مسلماً حقّاً.
والإسلام أصل يشمل كل الأعمال، والأفعال الخيرة كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكف الأذى عن الناس، وعدم التعدي عليهم باللسان أو اليد، ووجوب حسن العلاقة في التعامل، والكف عن اغتيابهم أو النميمة بينهم، وترك المحرمات، والعمل على فعل الخير.
وقد جاء القرآن الكريم والأحاديث النبوية ببيان حكم هذه الأفعال:إما بالحث عليها، وإما بوجوبها وجوب عين على المكلف؛ ففي القرآن قول الله تعالى في الجهاد:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج:87]. وقوله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:011]. وقوله في تحريم التعدي والأذى:{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [المائدة:78]. وقوله:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:85]. وقوله جل ثناؤه في حسن التعامل: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 951]. وقوله تقدست أسماؤه في تحريم الغيبة:{وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات:21]. وقوله عز من قائل عن فعل الخير:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الحج:٧٧] .
أما في السـنة، فالأحاديث كثيرة، منها أن رجلاً سـأل رسول اللهr :أي الإسلام خير؟ قال:(أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)([2]). وقال عليه الصلاة والسلام:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)([3]). وقال:(خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)([4]). وقال عليه الصلاة والسلام:(ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش البذيء)([5]). وقال:(ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول:يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال:ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه. والصراط:الإسلام. والسوران:حدود الله عز وجل. والأبواب المفتحة:محارم الله. وذلك الداعي على رأس الصراط:كتاب الله. والداعي من جوف الصراط:واعظ الله في قلب كل مسلم)([6]).
قلت: فإذا أدى المسلم الأعمال الظاهرة من أركان الإسلام، وما يتفرع عنها من الأفعال المعلومة من الدين شهد المسلمون بإسلامه، وشهادتهم في ذلك شهادة حق تتأتى من معرفتهم عنه في أدائه الظاهر لهذه الأعمال وشهادة المسلم بالإثبات أو النفي تثبت في حق المشهود له؛ فقد مرت جنازة ورسول الله rجالس بين أصحابه، فأثنوا عليها خيراً، قال:(هذا أثنيتم خيراً فوجبت له الجنة)([7]). والقول بوجوب أداء الأعمال الظاهرة ينفي شبه الذين يثبتون صفة الإسلام بـ «القول المجرد» تحت حجج واهية؛ فدين الله واضح في أنه قول وعمل، وأن التلفظ بأركانه والإقرار بها، لا ينفع المقر إلا إذا أتبع ذلك بعمل؛ لأنه لا يتصور عاقل أن يطلب جزاءً على عمل لم يعمله، ولا يتصور عاقل أن تأتيه ثمرة عمل لم يسع إليه. وقد بيَّن الله ذلك في كتابه، فقال عز وجل:{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}[التوبة:501].وقال تعالى:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى}[النجم:93–14].
الوجه الثاني:الإيمان بمعناه الشامل، وقد عرَّفه رسول الله r في حديث جبريل بأنه:الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ويدخل فيه الإسلام ومحبة الله ورسوله وسائر أعمال الخير، ومن ذلك قول رسول الله r:(والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا، حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)([8]). وقوله عليه الصلاة والسلام:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)([9]). وقوله:(الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إلَه إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق..)([10]). وقوله:(الحياء شعبة من الإيمان)([11]). والإيمان في أي صفة من صفاته هو الاعتقاد في الباطن، أي التصديق بالقلب، وهذا التصديق لا يعرفه إلا الله، فهو المطلع والعالم بعقيدة المسلم وإيمانه بها{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} [غافر:91]. فالمسلم حين يؤدي الصلاة يُعرَفُ منه أداء هذا الركن ظاهراً، أما حقيقة إيمانه بها فهي بينه وبين ربه، ولكن هذا لا يوجب إنكار هذا العمل في ظاهره، والشهادة لصاحبه بالخير، عملاً بقول رسول الله r:(إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)([12]). والمسلم حين يصوم يُعْرَف منه أداء هذا الركن ظاهراً بتركه الطعام والشراب، ولكن حقيقة صومه تبقى سراً بينه وبين ربه، ولهذا قال رسول اللهr:(يقول الله:الصوم لي، وأنا أجزي به)([13]).
فالأعمال الظاهرة قد لا تدل على حقيقة الفاعل، ولا يعلم هذه الحقيقة إلا الله؛ فالمنافقون كانوا مع رسول الله في غزوة تبوك، وقصدهم في الظاهر الجهاد معه ونصرته، ولكنهم كانوا يخفون حقيقتهم، فكانوا يستهزئون به وبأصحابه، ويقولون:أنى لهذا أن يفتح قصور الشام، ويملك حصون بني الأصفر؟! وقد أطلع الله نبيه ورسوله على ما كانوا يخفونه في أنفسهم من النفاق، فلما انكشف سرهم جاؤوا إليه يعتذرون فقال الله فيهم:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون*لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة:56–٦٦] وحتى يكون رسول الله على علم بالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام، وينكرونه في باطنهم، نزل معظم آيات التوبة لكشف حقيقتهم، ولم يكونوا يدركون أن الله سيكشف سرهم، ويبلغ نبيه عن نفاقهم. ولما علموا بذلك تمنوا أنهم جلدوا وعذبوا ولم ينزل فيهم قرآن يفضحهم، فصاروا يحذرون من نزوله فيهم، وفي هذا قال الله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون} [التوبة:46].
والإيمان درجات، فقد يكون كاملاً، وقد يكون ناقصاً ؛ فأعلى درجاته التصديق المطلق، الذي يتجلى في وجل القلب وخشيته من الله، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون}[الأنفال:٢]. وقوله عز وجل:{رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار}[النور:73]. أما نقص الكمال في الإيمان فيدرك من ضعف الخشية من الله؛ فثمة فرق بين من ترتقي وتزداد عنده درجة الخشية والخوف من الله، وآخر تكون هذه الخشية عنده أضعف؛ فالمؤمنون لا يتساوون في إيمانهم، ولا في درجات تقواهم؛ فالمؤمن العالم قد يكون أعلى درجة في إيمانه من المؤمن غير العالم؛ فالأول يكون إيمانه وعبادته على بصيرة وبينة، وغير العالم قد لا يكون كذلك، ولهذا قال الله عز وجل:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١].
وقال رسول اللهr:(فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)([14]). وكما يزيد الإيمان وينقص حسب عمل العامل، فإنه يزول عن صاحبه، وقد يكون هذا الزوال دائماً أو مؤقتاً؛ فإذا ارتكب المؤمن محرماً زال عنه إيمانه، بحكم قول رسول اللهr :(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حتى ينتهبها وهو مؤمن)([15]). فمن بقي على هذه الحال من ارتكاب المحرمات توقف إيمانه، فلا يقال له عندئذٍ إنه مؤمن بالمعنى الخاص للإيمان، فإن تاب ورجع عاد إليه الإيمان بشروطه، ومعنى هذا أنه لا خلاف بين أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يزداد بالطاعة، وينقص بالمعصية. والطاعة التي تزيد في الإيمان كثيرة، ولهذا قال رسول الله r في الحديث المتقدم:(الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إلَه إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فاقتضى هذا أن كل فعل للخير يعد طاعة، ويزيد في إيمان المؤمن. وكما أن هذا الفعل يزيد في الطاعة، فإن كل فعل على نقيضه يعد معصية، وينقص من الإيمان وقد يزيله، ولكن لا يزول عنه بالكلية، وقد خالف في ذلك الخوارج والمعتزلة؛ فالخوارج ينفون الإيمان نفياً كليًّا عن فاعل الكبيرة، ويعدونه كافراً. أما المعتزلة فيرون أنه يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين. كما خالف المرجئة أهل السنة؛ فيرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن الإيمان عندهم إقرار القلب، والأعمال ليست من الإيمان، وقد تلاشت هذه الفرق، وأصبحت مجرد تاريخ مرت به العقيدة الإسلامية في فترات تسلط فيها أصحاب الجدل والكلام؛ فتصدى لهم علماء الأمة بإيضاح الطريق الصحيح، مما هو مبين في كتب أهل السنة والجماعة.
وقد بين ذلك بإيجاز شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:»ومن أصول أهل السنة:أن الدين والإيمان قول وعمل:قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:871]. وقال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين*إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}[الحجرات:9-01]. ولا يسلبون الفاسق المللي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:29] .
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:٢] . وقول رسوله r:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حتى ينتهبها وهو مؤمن). ويقولون:هو مؤمن ناقص الإيمان؛ أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. فلا يعطى الاسم المطلق. ولا يسلب مطلق الاسم»([16]).
المغايرة بين الإسلام والإيمان:الدين أصل عام يجمع بين الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما في حديث رسول اللهr مع جبريل، والإيمان بمعناه الخفي يفترق عن الإسلام في معناه الظاهر، فالإسلام أصل عام، والإيمان أصل خاص. والأصل في المغايرة بينهما الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله عز وجل لنبيه:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [يونس:401].
وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:53]. وقوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:41]. وقد نزلت هذه الآية في أعراب بني أسد؛ فقد جاؤوا إلى رسول الله فأظهروا له الإسلام، ولكنهم لم يكونوا مؤمنين حقاً، فكانوا يقولون:يا محمد لقد أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، ونحن أتيناك بالأطفال والعيال، ولم نحاربك كما حاربتك قبيلة كذا وكذا، ثم طلبوا من رسول الله أن يعطيهم من الصدقة، فأنزل الله فيهم هذه الآية([17]). ثم بين عز وجل من هم المؤمنون حقاً، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات:51]. أي أنهم أولئك المخلصون الصادقون في إيمانهم فلم يرتابوا فيه. ولم يساورهم شك في حقيقته.
وأما السنة، فقول رسول اللهr :(الإسلام علانية، والإيمان في القلب)([18]). ولما قيل له عليه الصلاة والسلام ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً! قال:(أو مسلماً) قالها ثلاث مرات([19]). وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام:(اللهم لك أسلمت، وبك آمنت)([20]).
والمغايرة بين الإسلام والإيمان تتجلى يوم محاسبة الله لعباده على أعمالهم، وما إذا كانت هذه الأعمال خالصة له، أو كانت مشوبة بالرياء وعدم الإيمان. وفي هذا روى أبو هريرة أنه سمع رسول اللهr يقول:(إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال:فما عملت بها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال:كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال:فما عملت فيها؟ قال:تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن. قال:كذبت، ولكنك تعلمت ليقال:عالم، وقرأت القرآن ليقال:هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال:فما عملت فيها؟ قال:ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال:كذبت، ولكنك فعلت ليقال:هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)([21]).
والمغايرة بين الإسلام والإيمان ليست مطلقة؛ فمع أن رسول الله r أتى في حديث جبريل بالإسلام أولاً، أتى بالإيمان تابعاً له في السؤال والجواب؛ فهما وإن تفاوتا في الدرجة والمنزلة والفضل، فهما مترادفان في الأصل؛ ذلك أن الإيمان يشمل الإسلام؛ فكل مؤمن مسلم. كما أن الإسلام يشمل في معناه الشامل الإيمان، ولو أن كل مسلم ليس بمؤمن. ويدل على ذلك قول رسول الله r لوفد بني عبد قيس:(آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة ألا إلَه إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)([22]). كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل عن الإسلام، فقال:(أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك)، قال:فأي الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان) قال:وما الإيمان؟ قال:(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت) قال:فأي الأعمال أفضل؟ قال: (الهجرة) قال:فما الهجرة؟ قال:(أن تهجر السوء) قال:فأي الهجرة أفضل؟ قال:(الجهاد) ([23]).
ومن هذا يتبين ترادف معنى الإسلام والإيمان، ولكن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، ولا ريب في أن الإيمان إذا ثبت في النفس قام صاحبه بأعمال الإسلام؛ فالمؤمن لا بد أن يصلي، وصلاته تنهاه عن كل فحشاء ومنكر، والمؤمن لا بد أن يزكي .. وهكذا في كل أمر أمر الله به ورسولهr، وفي كل نهي نهى الله عنه ورسوله، فالإيمان يظل محرك الجوارح بالعمل، ولا ريب أن من حقق الإسلام، وطبق أركانه ومبادئه وأوامره ونواهيه، لا بد من أن يقوده ذلك إلى الإيمان، ولو فسق وارتكب بعض المعاصي، فإن حقيقة إسلامه قد تعيده إلى الإيمان.
وخلاصة المسألة: أن رسول الله r عرّف الإسلام في حديثه مع جبريل بأنه أركان الإسلام الخمسة، وهي:الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت في حال الاستطاعة، كما عرّف الإيمان بأنه:الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. والإسلام أصل عام، يشمل كل الأعمال الخيرة:كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكف الأذى عن الناس، وعدم التعدي عليهم باللسان أو اليد، ووجوب حسن العلاقة في التعامل معهم.
والإيمان كذلك أصل عام، يشمل محبة الله، ومحبة رسوله، ومحبة المسلمين، وسائر أعمال الخير، وهو في أي صفة من صفاته الاعتقاد في الباطن، أي التصديق بالقلب، وهذا التصديق لا يعرفه إلا الله، فهو المطلع والعالم بعقيدة المسلم وإيمانه بها، والإيمان درجات، فقد يكون كاملاً، وقد يكون ناقصاً، فأعلى درجاته التصديق المطلق الذي يتجلى في وجل القلب وخشيته من الله. أما نقص الإيمان فيدرك من ضعف هذه الخشية، فثمة فرق بين من ترتقي وتزداد عنده درجة الخشية والخوف من الله، وآخر تكون عنده هذه الخشية أضعف.
وكما يزيد الإيمان وينقص حسب عمل العامل، فإنه ينتفي عن صاحبه، وقد يكون هذا الزوال دائماً أو مؤقتاً، فإذا ارتكب المؤمن محرماً زال إيمانه، كما لو زنى أو سرق فلا يقال حينئذٍ إنه مؤمن بالمعنى الخاص للإيمان، فإن تاب ورجع عاد إليه الإيمان بشروطه، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
والسؤال: هل ثمة مغايرة في المعنى بين الإسلام والإيمان؟
الإسلام أصل عام، والإيمان أصل خاص، والمغايرة بينهما ثابتة بالكتاب والسنة، فقد غاير الله بين المسلمين والمؤمنين في كتابه، كما غاير ذلك رسوله، ولكن هذه المغايرة ليست مطلقة من حيث العموم، فلا ريب أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، وإذا ثبت في النفس قام صاحبه بأعمال الإسلام؛ فالإيمان يظل محرك الجوارح بالعمل، ولا ريب أن من حقق الإسلام وطبق أركانه ومبادئه وأوامره ونواهيه لا بد من أن يقوده ذلك إلى الإيمان، ولو فسق وارتكب بعض المعاصي، فإن حقيقة إسلامه تؤدي به إلى الإيمان.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان (1/54/ رقم 50)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج١ ص٩-١٢١، برقم (٨) .
([2]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج١ ص٣٢٢ ، برقم (٩٣).
([3]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، فتح الباري، ج١ ص٩٦، برقم (٠١).
([4]) أخرجه ابن ماجة في كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، سنن ابن ماجة، ج١ ص٦٣٦، برقم (٧٧٩١).
([5]) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في اللعنة، سنن الترمذي، ج٤ ص٨٠٣، برقم (٧٧٩١).
([6]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج٤ ص٣٨١ .
([7]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، فتح الباري، ج٣ ص٠٧٢، برقم (٧٦٣).
([8]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنّه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأنّ محبة المؤمنين من الإيمان، وأنّ إفشاء السلام سبب لحصولها، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج١ ص٥٦٢-٦٦٢، برقم (٤٥) .
([9]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أنّ من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج١ ص٩٣٢، برقم (٥٤).
([10]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج١ ص٦١٢، برقم (٨٥).
([11]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج١ ص٤١٢، برقم (٥٣).
([12]) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، سنن الترمذي، ج٥ ص٤١، برقم (٧١٦٢) .
([13]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب فضل الصوم، فتح الباري، ج٤ ص٥٢١، برقم (٤٩٨١) ومسلم (2/608 رقم 1511).
([14]) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العباد، سنن الترمذي، ج5 ص47، برقم (2682).
([15]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية، على إرادة كماله، صحيح مسلم مع شرحه إكمال المعلم، ج1 ص271-272 برقم (57).
([16]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ج٣ ص١٥١-٢٥١ .
([17]) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج٤ ص٠٢٢ .
([18]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج٣ ص٤٣١-٥٣١ .
([19])أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون*يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}
، فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جلَّ ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} ، فتح الباري، ج١ ص٩٩-٠١١، برقم (٧٢).
([20]) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} ، فتح الباري، ج٣١ ص٣٨٣، برقم (٥٨٣٧) .
([21]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج٦ ص٨٤٦-٣٥٦، برقم (٥٠٩١) .
([22]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان، فتح الباري، ج١ ص٧٥١، برقم (٣٥) .
([23]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج٢ ص٧٠١، ٦٠٤، والحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم، ص٧٢-٨٢ .