بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
فقبل البحث في هذه المسألة تجدر الإشارة إلى أن ثمة حاجزًا نفسيًّا خاصة لدى بعض ذوي المال في عدم إيصائهم؛ لأن مناط الوصية الموت الذي يفر الإنسان بطبعه من تذكره، أو التفكير فيه، ورغم أهمية الوصية لدى بعض هؤلاء، إلا أن هذا الحاجز يجعلهم يترددون في الإيصاء، فيباغتهم الأجل، وتحدث المشكلات بين أولادهم، بسبب المال الذي جمعوه لهم.
وكما يتردد الحكم في الوصية بين الذين ذكرهم الأخ السائل، فقد تردد بين الفقهاء -رحمهم الله- في مدى وجوبها من عدمه.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن القياس عدم جواز الوصية، لكونها تمليكًا مضافًا إلى ما بعد الموت المزيل للملك، فتقع الإضافة إلى زمن زوال الملك، فلا يتصور وقوعه تمليكًا، فلا يصح إلا أنه يستحسن جوازها، كما ورد في الكتاب والسنة والإجماع مما سيرد، وعلى هذا فإن الوصية في المذهب الحنفي ليست واجبة بل جائزة([1]).
وقال بعدم الوجوب الإمام مالك([2])، والشافعي([3])، وأحمد([4])، وهو قول أكثر العلماء، ونسبه ابن عبدالبر إلى الإجماع، إلا من كانت عليه حقوق بغير بينة، أو كانت عنده أمانة بغير شهادة، فإن كان ذلك فواجب عليه الوصية فرضًا، لا يحل له أن يبيت ليلتين إلا وقد أشهد بذلك([5]).
وقال بوجوب الوصية طائفة أخرى من العلماء؛ فروي عن الزهري قوله: «إن الله جعل الوصية حقًّا مما قل أو كثر»([6])، ولما سئل أبو مجلز عما إذا كان على كل ميت وصية قال: «إن ترك خيرًا([7]).
وقال الإمام ابن حزم: الوصية فرض على كل من ترك مالًا»([8])، بدليل قول رسول الله ﷺ في حديث عبد الله بن عمر: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده)([9]).
وقد استدل من قال بعدم الوجوب بأن رسول الله ﷺ لم يوص، ولم ينقل عن أحد من أصحابه فرضيتها، ولو كانت واجبة لفعلوا وقالوا: إن في رواية عبدالله بن عمر قوله ﷺ: (له شيء يريد أن يوصي فيه) فرد الأمر إلى إرادته، وليس فرضًا عليه، وقالوا: إن حاطب بن أبي بلتعة في حضرة ابن عمر لم يوص، وقال الإمام ابن حزم في جوابه على هذا الاستدلال: «روينا إيجاب الوصية من طريق ابن المبارك عن عبدالله بن عون عن نافع عن ابن عمر ومن طريق عبدالرزاق عن الحسن بن عبيدالله قال: كان طلحة والزبير يشددان في الوصية، وهو قول عبدالله بن أبي أوفى، وطلحة بن مطرف، وطاوس، والشعبي وغيره، وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا»([10])، ثم قال: إن كل ما ذكر من عدم الوجوب لا حجة لأصحابه فيه، فمن زاد في رواية عبدالله بن عمر بقوله (يريد أن يوصي فيه)، فإن مالك بن أنس رواه بغير هذا اللفظ، ولكن بلفظ الإيجاب فقط، وأما قول رسول الله ﷺ لم يوص، فقد كانت تقدمت وصيته بجميع ما يترك بقوله الثابت يقينًا: (إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة) وهذه وصية صحيحة بلا شك، لأنه أوصى بصدقة كل ما يترك إذا مات([11]).
والأصل في وجوب الوصية لمن يقول به: الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106].
وأما السنة: فقول رسول الله ﷺ في حديث ابن عمر الآنف الذكر: (مامن امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده)([12])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم)([13])، ومن السنة أيضًا ما رواه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- كان مريضًا فعاده رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله أوصي بجميع مالي فقال: (لا)، فقال: بثلثي مالي؟ قال: (لا)، قال: فبنصف مالي، قال: (لا)، قال: فبثلث مالي، قال: (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)([14]).
وأما الإجماع: فإن سلف الأمة وخلفها كانوا يوصون بجزء من مالهم، فكان هذا إجماعًا.
وأما المعقول: فإن الذي جمع المال ونماه، ونصب فيه، حقيق أن يجعل منه لنفسه ما ينفعه في آخرته؛ فإذا كان من واجبه عدم حرمان ورثته وتركهم عالة على الناس؛ فإن من المعقول عدم حرمان نفسه من ماله؛ لأنه إذا مات انقطع عمله من الدنيا، ما لم يكن له صدقة جارية، أو علمًا ينتفع به، أو ولدًا صالحًا يدعو له، كما في الحديث.
قلت: والوصية إلى الوجوب أقرب منها إلى الجواز أو الاستحباب؛ لأن الله عز وجل عظَّم أمرها حين أمر بالإشهاد عليها، كما عظَّم أمرها رسول الله ﷺ في حديث ابن عمر المتفق عليه في الصحيحين، وقد ذكر الإمام ابن حجر في الفتح: أنه يستدل بظاهر الآية وبالحديث على وجوبها، وحكاه البيهقي عن الإمام الشافعي في القديم([15])، كما ذكره الإمام ابن حزم فيما تقدم ذكره، ويؤيده أيضًا ما درج عليه الصحابة – رضوان الله عليهم – من كتابة وصاياهم؛ فقد أخرج عبدالرزاق – بسند صحيح – عن أنس – رضي الله عنه – قال: «وكانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان بن فلان أن يشهد ألا إلَه إلا الله وحده لا شريك له، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة: 132]، ثم يوصي بما يوصي به من مال»([16]).
ومن الأمثلة على ذلك: وصية الإمام الشافعي -رحمه الله- فقد استهلها بالشهادتين، وإيصاء نفسه، ومن سمع وصيته بإحلال ما أحل الله، وتحريم ما حرمه، ثم أوصى بتوزيع ماله([17]).
ومن المشاهد أن بعضًا من ذوي المال ينسون أنفسهم، فلا يوصون بشيء ينفعهم يوم رجوعهم إلى الله: إما بخلًا على أنفسهم، أو تهاونًا في استذكار الموت، أو استبعاده فيفرق ورثتهم أمواله وينسونه، هم أيضًا إما شحًا بالمال، أو تهاونًا في بره والصدقة عليه، وفي هذه الحال يعد المورث آثمًا عند من يقول بوجوب الوصية أو فرضيتها، ولا يجب في ماله صدقة ولا وصية، إلا أن الإمام ابن حزم أوجب الوصية في ماله، وإن لم يوص بشيء، قال أبو محمد: «فمن مات ولم يوص، ففرض أن يتصدق عنه بما تيسر ولا بد؛ لأن فرض الوصية واجب.. فصح أنه قد وجب أن يخرج شيء من ماله بعد الموت، فإن كان كذلك فقد سقط ملكه عما وجب إخراجه من ماله، ولا حد في ذلك إلا ما رآه الورثة أو الوصي مما لا إجحاف فيه على الورثة»([18]).
يستدل لهذا بما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا قال لرسول الله ﷺ: إن أمي افتُلتَت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: (نعم فتصدق عنها)([19]). وكذا ما رواه أبو هريرة: أن رجلًا قال لرسول الله ﷺ: إن أبي مات ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ فقال رسول الله ﷺ: (نعم)([20]). استدل له الإمام ابن حزم بأن عائشة -رضي الله عنها- اعتقت تلادًا من تلاد أخيها عبدالرحمن بعد وفاته في منامه([21]).
وخلاصة المسألة: أن ثمة تباينًا في آراء الفقهاء – رحمهم الله – حول الوصية، فمنهم من يرى وجوبها، ومنهم من يرى جوازها أو استحبابها، ولعل الصواب -والله أعلم- وجوبها لمن كان لديه مال؛ لأن الله -عز وجل- عظَّم أمرها بالإشهاد عليها، كما عظم أمرها رسول الله ﷺ، وما درج عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من كتابة وصاياهم، واستهلالها بإثبات الشهادتين والإقرار بقيام الساعة، وبعث الأموات من قبورهم، وإيصائهم كذلك لذرياتهم بتقوى الله وطاعته، وطاعة رسوله، وبما وصَّى به إبراهيم ويعقوب بنيه فيما ذكره الله -عز وجل- في ذلك بقوله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}(3)، وإيصائهم كذلك بتوزيع أموالهم.
ومن مات ولم يوص بشيء، فإن من الأفضل لعقبه البر به والإحسان إليه بالتصدق عنه بشيء من ماله ينفعه في آخرته.
والله تعالى أعلم.
([1]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني ج7 ص330.
([2]) جامع الأحكام الفقهية، للقرطبي ج2 ص120.
([3]) روضة الطالبين، للنووي ج6 ص7.
([4]) المغني، لابن قدامة ج8 ص190.
([5]) المغني، لابن قدامة ج8 ص190.
([6]) التمهيد، لابن عبدالبر ج3 ص257، وجامع الأحكام الفقهية للقرطبي ج2 ص120.
([7]) المغني، لابن قدامة ج8 ص361.
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب الوصايا، برقم (738)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج5 ص419.
([10]) المحلى بالآثار، لابن حزم ج8 ص349.
([11]) المحلى ج8 ص350-351، والحديث صحح إسناده على شرط الشيخين: شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب، (٩٩٧٢).
([12]) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب الوصايا، برقم (2738)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج5 ص419.
([13]) أخرجه ابن ماجه في كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، ج2 ص904، برقم (2709)، وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ج2 ص111، برقم (2190): «حسن».
([14]) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب إن ترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، برقم (2742)، صحيح البخاري مع فتح الباري ج5 ص428.
([15]) وممن قال بوجوبها: بوجوب الوصية: عبد الله بن أبي أوفى، وطلحة بن مصرف وطاوس والشعبي. ينظر: المغني 6 / 1 ـ 3، حاشية ابن عابدين 5 / 415، والقرطبي 2 / 359، والشرح الصغير 4 / 579، وغاية المنتهى 2 / 328، والمحلى 9 / 312.
([16]) المصنف ج9 ص53، صححه الألباني في إرواء الغليل، (١٦٤٧).
([19]) أخرجه الإمام أحمد ج6 ص51، أخرجه البخاري (١٣٨٨)، ومسلم (١٠٠٤) باختلاف يسير..
([20]) أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، برقم (1630)، صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص4448.