بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
فالمهر هو ما يدفعه الزوج للمرأة مقابل استمتاعه بها، ويسمى الصداق والنحلة، لقول الله -تعالى-: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، كما يسمى الأجر والفريضة، لقوله -عز وجل-: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، والمهر واجب في كل نكاح يتم بين زوجين، والأصل فيه قول الله -عز وجل-: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم} [النساء: 24]، وهو واجب على الزوج، وما يحدث في بعض بلاد المسلمين من وجوبه على الزوجة مخالف لشرع الله المحكم في قوله -عز وجل-: -{وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، فالمخاطب هنا الأزواج وليس النساء، فترتب الحق لهن على الأزواج، وقيل: إن المخاطب هم الأولياء، والأول أصح؛ لأنهم – كما يقول الإمام ابن العربي – المخاطبون في قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3].
قال الإمام ابن العربي: النحلة في اللغة عبارة عن العطية الخالية عن العوض، واختلف في المراد بها على ثلاثة أقوال:
الأول: معناه طيبوا نفسًا بالصداق كما تطيبون بسائر النحل والهبات.
الثاني: معناه نحلة من الله تعالى للنساء، فإن الأولياء كانوا يأخذونها في الجاهلية فانتزعها الله -سبحانه- منهم، ونحلها النساء.
الثالث: أن معناه عطية من الله؛ فإن الناس كانوا يتناكحون في الجاهلية بالشغار، ويخلون النكاح من الصداق([1]).
وينبني على هذا أن المهر ليس مجرد عطية أو منحة من الزوج لزوجته، وإنما هو عوض أو استحقاق لها عن تمكين الزوج من نفسها، ناهيك بما يتولد عن هذا التمكين من المنافع المتبادلة بينهما من السكينة والمودة والرحمة، كما في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الروم: 21]، وما ينتج من هذه المنافع أيضًا من الولد، كما في قوله -عز وجل-: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، وما ينتج منها أيضًا من بناء الأمة وتتابعها لإعمار الأرض، وذكر الله وعبادته فيها. وقد بسط الفقهاء – رحمهم الله – مسألة الأحق بالمهر، أهي الزوجة نفسها أم وليها؟
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: أن المهر ملك المرأة وحقها؛ لأنه بدل بضعها، وهذا حقها وملكها، والدليل عليه قوله -عز وجل-: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، أضاف المهر إليها فدل أن المهر حقها وملكها. وقوله -عز وجل-: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4]، فقوله تعالى: {مِّنْهُ} أي من الصداق المكنى السابق، أباح للأزواج التناول من مهور النساء، إذا طابت أنفسهن بذلك، ولذا علق -سبحانه وتعالى- الإباحة بطيب أنفسهن، فدل ذلك كله على أن مهرها ملكها وحقها، وليس لأحد أن يهب ملك إنسان بغير إذنه، ولهذا لا يملك الولي هبة غيره من أموالها فكذا المهر، وعلى هذا يحق لها أن تهب مهرها للزوج دخل بها أو لم يدخل؛ لقوله -تعالى-: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} وليس لأحد من أوليائها الاعتراض عليها، سواء كان أبًا أو غيره؛ لأنها وهبت خالص ملكها([2]).
وفي مذهب الإمام مالك: أن ملك المهر للزوجة، إلا أن الإمام مالك منع من هبة البكر الصداق لزوجها، وجعل ذلك للولي، وفي المذهب أن المرأة الرشيدة هي التي تقبض مهرها، ولا يقبضه وليها إلا بتوكيلها([3]).
وفي مذهب الإمام الشافعي: أن المرأة تملك المهر المسمى في العقد إن كان صحيحًا، ومهر مثلها إن كان فاسدًا، وإن كانت رشيدة وجب تسليمه لها، وإن كانت صغيرة أو غير رشيدة سلم مهرها إلى من ينظر في مالها([4]).
وفي مذهب الإمام أحمد ذكر صاحب المغني: أنه يجوز لأبي المرأة أن يشترط شيئًا من صداق ابنته لنفسه، بدليل قول الله -تعالى- في قصة شعيب -عليه السلام-: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، فجعل الصداق الإجارة على رعاية غنمه، وهذا شرط لنفسه، ولأن للوالد الأخذ من مال ولده، بدليل قول رسول الله ﷺ: (أنت ومالك لأبيك)([5])، وقوله: (إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم)([6])، فإذا شرط الأب لنفسه شيئًا من الصداق يكون ذلك أخذًا من مال ابنته، وله ذلك، وقال القاضي من أصحاب المذهب: إذا شرط جميع الصداق لنفسه صح، بدليل قصة شعيب، فإنه شرط الجميع لنفسه([7]).
قلت: والصواب – إن شاء الله – أنه ليس للأب أن يأخذ شيئًا من صداق موليته؛ لأسباب عدة:
منها: أن الآيات التي وردت في الصداق تدل على أنه حق لها وليس لوليها، بدليل قوله -تعالى-: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا}، وقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وبدليل قول رسول الله ﷺ: (إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك)([8])، فدل هذا على اختصاص النساء بمهورهن؛ لأنهن المرادات بالحكم، وليس غيرهن من الأب أو نحوه، وهذا الحكم بالاختصاص مقدم على ما ورد في قصة شعيب عليه السلام؛ لأن شرعنا مقدم على شرع من قبلنا.
ومن هذه الأسباب: أن عامة الفقهاء اتفقوا على اختصاص النساء بمهورهن.
ومنها: أن اختصاص الأب بمهر موليته يجعله يتحكم في أمر زواجها، فيطلب مهرًا كثيرًا لنفسه، مما يعطل زواجها ويؤدي إلى عضلها، أما إذا أرادت أن تهبه أو جزءًا منه لأبيها أو لمن تشاء عن طيب نفس منها فلها ذلك؛ لأنه ملكها، وللمالك أن يتصرف في ملكه بما يراه وما تقتضيه مصلحته.
ومن هذه الأسباب: أن الاحتجاج بأن للأب أن يأخذ من مال ولده ليس حجة في تصرف الأب في مهر موليته؛ لأن أخذه من مال ولده منوط بعدم الضرر، وليس أضر من أن يتحكم الأب في مهر موليته مقابل بضعها.
وخلاصة المسألة: أن مهر المرأة حق وملك لها، والأصل في هذا قول الله -تعالى-: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. وقوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فدل هذا على اختصاصهن بمهورهن؛ لأنهن المرادات بالحكم، وليس غيرهن من الأب أو نحوه، وقد اتفق عامة الفقهاء على ذلك، ومن قال بخلاف ذلك فحجته ضعيفة؛ لعدة أسباب، منها: أن اختصاص الأب بمهر موليته يجعله يتحكم في زواجها، مما قد يؤدي إلى عضلها، ومنها أن القول بأن للأب أن يأخذ من مال ولده ليس حجة في أخذ مهر موليته؛ لأن أخذه من مال ولده منوط بعدم ضرره، وليس أضر من أن يتحكم الأب في مهر موليته، فيمنعها منه.
والله تعالى أعلم
([2]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني ج2 ص290.
([3]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج5 ص24، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج2 ص328.
([4]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي ج16 ص339.
([5]) أخرجه الطبراني في الكبير ج7 ص279، وفي الصغير ص81، وانظر: إرواء الغليل ج3 ص325، كما أخرجه ابن ماجه في باب ما للرجل من مال ولده، في كتاب التجارات ج2 ص769، صحح إسناده أحمد شاكر في تخريج المسند لشاكر، (١١/١٢٤)..
([6]) أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده ج2 ص769، والطحاوي في مشكل الآثار ج2 ص230، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (١٨٧٠).