سؤال‮ ‬من أحد الإخوة حول ما‮ ‬إذا كان‮ ‬يجوز للإنسان أن‮ ‬يتصرف في‮ ‬جسده، فيتبرع بأحد أعضائه في‮ ‬حياته أو بعد مماته‮ ‬‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

مدى حق الإنسان في‮ ‬التصرف في‮ ‬جسده‮ في‮ ‬حياته أو بعد مماته‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وفي الجواب على هذا ثلاث مسائل، هي:

– تبرع الإنسان بعضو من أعضائه حال حياته.

الوصية بالتبرع بعضو من أعضائه بعد مماته.

التصرف في جسده بأي صورة تخالف تكوينه.

المسألة الأولى: تبرع الإنسان بعضو من أعضائه في حال حياته:

هذه المسألة أثير الجدل حولها، فتعدد فيها الاجتهاد بين مؤيد لحق الإنسان في التصرف في جسده، وبين مخالف له، ولهذا الاجتهاد رغم اختلافه فوائد متعددة، أهمها: بيان أن الإسلام في مقاصده وتفسير قواعده يقبل قول من يقول بالجواز، كما يقبل قول من يقول بعدمه.

فالذين يقولون بالجواز يرون أن في تبرع المسلم الحي بشيء من جسده لمسلم آخر مصلحةً ظاهرةً؛ لأن هذا للأول من باب التداوي الجائز شرعًا، وللثاني من باب التعاون على البر والتقوى، وهذه المصلحة أكثر وضوحًا بالنسبة لمن يتبرع بأحد أعضائه بعد مماته؛ إذ إنه -كما يقول هؤلاء- ليس ثمة ما يمنع شرعًا من أخذ أعضاء من جثة الميت لمصلحة الحي؛ لأن مصلحة هذا أرجح من مصلحة الأول، ويستدلون على ذلك بعدد من الأدلة، منها: قول الله -تعالى-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُون} [المائدة:32]، وقوله -عز ذكره-: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [البقرة591]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} [التوبة:021]. كما يستدلون بقول رسول الله -ﷺ-: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل»([1]).

هذا من وجه، ومن وجه آخر يرى هؤلاء أن أخذ أعضاء من الميت؛ لأنتفاع الحي منها لا يعد تمثيلًا به، كما قد يُظن؛ لأن قول رسول الله -ﷺ-: «كسر عظم الميت ككسره حيا»([2]) الذي يستدل به أصحاب الرأي المخالف، يراد منه عدم إيذاء الميت، أو التعدي عليه لمجرد الإيذاء أو الانتقام منه، كما قد يفعل عدوه، أما إذا كان في كسر عظمه مصلحة ظاهرة فليس ثمة ما يمنع منه، بدليل قصة الصحابي عروة بن الزبير -رضي الله عنهما-، فقد أصيب بأكلة في إحدى رجليه، فقرر الأطباء قطعها، ولم ير-وهو أحد الفقهاء- ما يمنع من ذلك([3]).

والذين يقولون بأنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في نفسه، يرون أن هذه النفس ملك لله -عز وجل-، والأصل في هذا الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والمعقول.

أما الكتاب: فالآيات كثيرة في أن السماوات والأرض وما فيهما ملك لله؛ لقوله -تعالى-: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 021]، وهذا الملك في عمومه يقتضي الحصر، وعدم التصرف فيه من غيره، أي: أن النفس بكل مكوناتها مملوكة لخالقها في إنشائها؛ لقوله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون} [الأنعام: 89]، كما أنها مملوكة لمالكها في أصل خلقتها وكيفية هذا الخلق؛ لقوله -عز ذكره-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين} [الأعراف:981]، وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} [التين:4].

كما أنها مملوكة لمالكها في حياتها ومماتها؛ لقوله -جل ذكره- : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} [البقرة:82]، كما أن المالك للنفس متحكم في سمعها وبصرها ورزقها؛ لقوله -جل ذكره-: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون} [يونس:13]، كما أنه متحكم في حركتها وسكونها؛ لقوله -عز ذكره-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون} [الأنعام:16]، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين * كِرَامًا كَاتِبِين * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون} [الانفطار:01-21]، وقوله -تقدست أسماؤه-: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظ} [الطارق:4].

وأما السنة: فقد حرمت التعدي على النفس بغير حق، ومن ذلك الانتحار بكل صوره، وفيه قول رسول الله -ﷺ- : «من تردى من جبل، فقتل نفسه، فهو في نار جهنم»([4])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم، خالدًا مخلدًا أبدًا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدًا أبدًا»([5]). وقد بين عليه الصلاة والسلام عظم النفس، ولطف الله بها، وذلك فيما رواه أبو أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -ﷺ- قال: «إنه قد وكل بالمؤمن مئة وستون ملكا، يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين»([6]).

وعندا يذكر -عليه الصلاة والسلام- أمرًا له أهمية يبدؤه بـأن نفسه بيد الله، كقوله: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه»([7]).

وأما أقوال الأئمةرحمهم الله-:

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: لا يجوز التداوي بعظم الآدمي، أو أي جزء من أجزائه([8]).

وفي مذهب الإمام مالك: لا يجوز الانتفاع بأجزاء أو غيرها ولو كان ميتا، والضرورة لا تبرر ذلك، وعدم الجواز يشمل غير معصوم الدم كحال المرتد؛ لأن الأمر يتعلق بكرامة الإنسان، بصرف النظر عن صفته([9]).

وفي مذهب الإمام أحمد: لا يجوز الانتفاع ولو للضرورة بأجزاء الآدمي، ولو كان ميتا متى كان معصوم الدم([10]).

وفي مذهب الإمام ابن حزم: لا يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي، ويستثنى من ذلك اللبن؛ لأنه ورد النص على إباحته([11]).

وأما في مذهب الإمام الشافعي: فيجوز للمضطر أن ينتفع بأجزاء الآدمي، سواء كان معصوم الدم أم مهدوره، وفيه تفصيل في هذا([12]).

وأما المعقول: فإن من الفطرة السليمة -ناهيك عن الواجب- أن يكون الإنسان قيمًا على نفسه بحفظها من التلف؛ لمناط ذلك بمصلحتها، وليس من هذه الفطرة أن يكون الإنسان عدوًّا لنفسه، فيتصرف في جسده بما ليس له مصلحة فيه، ولما كان الإنسان مملوكًا لله في نشأته وتكوينه ووجوده وعدمه، وأن مالكه يتحكم فيه، فالعقل يقتضي إذًا عدم التعدي على ملكية المالك، ومن المعروف عقلًا وحكمًا أن المالك لأي شيء من أمور الدنيا -ولله مثل الأعلى- لا يرضى أن يتعدى أحد على ملكه؛ لأن من أسس الملك حصر الاختصاص في مالكه، فاقتضى هذا أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في جسده إلا بما فيه مصلحته، فإن تصرف فيه بغير ذلك صار متعديا عليه.

قلت: إذا كان المراد من نقل العضو من الحي إلى الحي مقابل مبلغ من المال فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك يضطر الفقراء إلى بيع أعضائهم، فيكون ذلك من باب المتاجرة بالجسد، أما إذا كان المراد تبرع الولد لوالديه أو إخوته أو زوجته، فنكون أمام مصلحتين متعارضتين: مصلحة إنقاذ القريب من الخطر، ومصلحة المتبرع في عدم تعريض جسده للخطر بسبب النقل منه، فالموازنة بين المصلحتين ترجح التبرع؛ لإنقاذ القريب من الخطر؛ لأن خطره أعظم من خطر الآخر، ولا شك أن البر من أعظم القربات عند الله، فليس شيءٌ أهمَّ من أن يبر الولد أحد والديه أو أسرته، فينقذه من خطر، يتعرض له، ومن القواعد عند أهل العلم وجوب الموازنة بين ما أحل الله للإنسان وما حرم عليه، وما أمره به وما نهاه عنه، وعليه في حال الشك أن ينظر إلى أسباب الفعل وآثاره ونتائجه، فإن كان فيها خير كان مما أبيح له، وما أمر به، والعكس بالعكس، ولا شك أن من الخير أن ينفع الإنسان قريبه كما ذكر.

المسألة الثانية: وصية الإنسان بالتبرع بعضو من أعضائه بعد مماته:

بالنسبة لنقل الأعضاء من الميت إلى الحي إما بوصية منه في حياته، أو بفعل من غيره كأهله، فالخلاف في هذه المسألة -أيضًا- قائم، ومن يقول بجوازه يرى أنه ليس ثمة دليل يعتمد عليه في تحريمه، كما يرى أن مصلحة الحي ترجح على مصلحة الميت، وأن ذلك من تقديم الأهم على المهم.

ومن يقول بخلاف ذلك يستدل بعدد من الأدلة:

منها: أن حرمة الميت كحرمة الحي؛ لقول رسول الله -ﷺ- : «كسر عظم الميت ككسره حيا»([13])، فلا يجوز لأحد أن يتعدى عليه بنقل أعضائه.

ومنها: أن نفس الميت ملك لله، فلا يجوز له أن يوصي بالتبرع بأعضائه.

ومن هذه الأدلة: أن الأطباء أثناء السماح لهم بالفعل قد يتجاوزون على الجسم، فينقلون منه العضو أو الأعضاء دون أن يكون لديهم دليل قاطع بموت الميت، كثبوت موت جذع دماغه، أو موت قلبه.

قلت: هذه بإيجاز أقوال المؤيدين ومن خالفهم للنقل من الميت إلى الحي، وأيا كانت أهمية هذا الدليل أو ذاك فإن ثمة دليلًا شرعيًّا قاطعًا، هو: أن حرمة الميت كحرمة الحي، وهذه الحرمة تقتضي عدة موانع:

منها: أن في تقطيع أعضائه امتهانًا لكرامته.

ومنها: أن في النقل منه تمثيلًا بجثته، وهذا غير جائز شرعًا، فقد أقبل هذا على الله سويا في كينونته، ويبعث على هذه الكينونة التي كان عليها في الدنيا، باستثناء من خسر دنياه، ولهذا يتساءل من حشر أعمى بعد أن كان بصيرًا في الدنيا بقوله: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:521]. فيرد الله عليه بقوله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:621].

ومن هذه الموانع: أن الميت قد يكون من ذوي الكرامات الذين لا تأكل الأرض أجسادهم، وفي النقل من أعضائه امتهان لهذه الخصوصية، وفي التاريخ شواهد متعددة على هذه الخصوصية، فقد ورد في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو (والد جابر) الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان هذا القبر مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد بعد أن استشهدا يوم أحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت، فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة([14]).

كما ورد في رواية أخرى عن جابر -رضي الله عنه- قال: لما أراد معاوية أن يجري العين بأحد نودي بالمدينة: من كان له قتيل فليأت قتيله. قال جابر: فأتيناهم، فأخرجناهم رطابًا يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم، فانفطرت دما، وقيل: إن الذي أصابته المسحاة حمزة -رضي الله عنه-([15]).

وفي رواية عن ابن إسحاق قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلًا من أهل نجران كان زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها، قاعدًا واضعًا يده على ضربة في رأسه، ممسكا عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها انبعث دمًا، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: (ربي الله)، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم: أن أقروه على حاله، وردوا عليه الذي كان عليه، ففعلوا([16]).

قلت: فهذه الكرامات موجودة في كل الأزمنة والأمكنة للمؤمنين، الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم، فباعوها له، وقد حدثني من أثق به أنه شاهد وجود هذه الكرامات لعدد من الأشخاص، فحري بنا أن نحترم كرامة الميت، وعدم التعرض له بالإهانة، وأن من فتوحات العلم الذي فتحه الله في هذا الزمان ترقيع الأعضاء التالفة في الحي: إما من الحيوانات، أو من جسم الإنسان نفسه، أو من المواد الأخرى، بما يغني عن العبث بأعضاء الإنسان بعد مماته.

المسألة الثالثة: التصرف في الجسد بأي صورة تخالف تكوينه:

ولهذا التصرف صور كثيرة:

منها: حالات الانتحار، وهذا محرم، وقد أشير آنفا إلى الأحاديث التي تدل على تحريمه.

ومن هذه الصور: الوشم والتنميص والتفليج، والأصل في التحريم الكتاب والسنة:

 ففي الكتاب: حكى الله عن إبليس قوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء:911].

وأما في السنة: فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسـول اللـه -ﷺ- : «لعـن الواصلـة والمستوصلـة والواشمـة والمستوشمة»، وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله»([17]).

ومن هذه الصور: ما أصبح يعرف اليوم بالتحول (قصدًا) من الذكورة إلى الأنوثة، أو قبول التجارب الطبية على الجسد، لقاء منفعة مادية، ونحو ذلك من الصور التي يقصد بها الإنسان تغيير طبيعة جسده بما فيه ضرر له، فهذا كله محرم.

وخلاصة المسألة: أن هناك خلافًا في الاجتهاد بين من يقول بجواز تبرع الحي بعضو من أعضائه، وبين من يخالف هذا الرأي، فيرى أن النفس ملك لله -عز وجل-، لا يجوز لصاحبها ولا لغيره التعدي عليها، كما أن هناك خلافًا في الاجتهاد بين من يرى جواز نقل الأعضاء من الميت إلى الحي؛ لأن ذلك من باب التداوي والتعاون على البر والتقوى، وبين من يرى عدم الجواز؛ لأن في هذا النقل امتهانًا لحرمة الميت التي تعد مثل حرمة الحي، ولكل من هذا الاجتهاد نصيبه من الدليل.

والأولى -والله أعلم- عدم جواز تبرع الحي بعضو من أعضائه إذا كان ذلك على سبيل المتاجرة بها، وأن يقتصرهذا التبرع على والدي المتبرع أو قريبه، ومن في حكمهم؛ لأن ذلك من باب البر الذي أمر الله به.

كما أن الأولى -والله أعلم- عدم جواز نقل أعضاء الميت أو التصرف فيها؛ لما في ذلك من تعدٍّ على حرمته؛ لأن هذه الحرمة تقتضي عدة موانع:

منها: أن في تقطيع أعضائه امتهانًا لكرامته، وتمثيلاً بجثته، وهذا غير جائز شرعًا.

ومنها: أن الميت قد يكون من ذوي الكرامات كالشهداء والصالحين الذين قد لا تأكل الأرض أجسادهم، ففي نقل أعضائه امتهان لهذه الخصوصية.

أما التصرف في جسد الإنسان بما يخالف تكوينه كالانتحار فهذا محرم، ويشمل هذا التحريم كل ما فيه ضرر للجسد، أو تشويه لخلق الله، كالوشم، أو تحويل هذا الخلق، أو تغيير فيه، كالتحول من الذكورة إلى الأنوثة دون سبب مشروع، ونحو ذلك.

والله أعلم بالصواب.

 

([1])  أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، برقم، (3193)، صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص (5905).

([2]) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم، هل يتنكب ذلك المكان؟، برقم: (3207) (، ج3 ص 162)، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٢٠٧).

([3]) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 42، ص130  .

([4]) أخرجه البخاري (٥٧٧٨)، ومسلم (١٠٩)، أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، برقم (1964) ج4 ص 369.

([5]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، صحيح مسلم مع إكمال إكمال المعلم برقم (175)، ج1 ص 361.

([6]) فتح الباري ج1 ص75.، ضعف إسناده العراقي في تخريج الإحياء، (٣/٤٨).

([7]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم، ج1 ص240، برقم 72.

([8]) حاشية رد المحتار لابن عابدين ج5 ص215، وشرح فتح القدير لابن الهمام ج8 ص64.

([9]) حاشية الدسوقي ج4 ص353، والفواكه الدواني ج2 ص 441 .

([10]) المغني لابن قدامة ج8 ص602، وكشاف القناع ج2 ص76، ج6 ص 116  .

([11]) المحلى لابن حزم ج1 ص133، ج7 ص399.

([12]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام لابن عبد السلام ج1 ص90.

([13]) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم، هل يتنكب ذلك المكان؟، برقم: (3207) (، ج3 ص 162)، صححه الألباني في صحيح أبي داود، (٣٢٠٧).

([14]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ج1 ص374، قال ابن عبد البر في الاستذكار، (٤/١٥٤): متصل معناه من وجوه صحاح.

([15]) فتح المالك ج6 ص360 .

([16]) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج9 ص186  .

([17]) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص5763-5764، برقم 5467، 5469 ..