سؤال مفاده:‏ أن شخصًا استأجر شقة في عمارة سكنية، ثم أجرها لغيره بزيادة قدرها ستة آلاف ريال، وقد اعترض صاحب العمارة على هذا الإيجار؛ بحجة أنه حين أجَّر المستأجر كان لذاته، وليس للمضاربة على العين المؤجرة.

حكم من استأجر دارًا، فأجرها لغيره

يرى غالب الفقهاء أنه يجوز للمستأجر إيجار العين التي استأجرها إلى غيره إذا كانت هذه العين لا تتأثر من هذا التأجير، ولهم في ذلك تفصيل في مدى هذا الجواز: أهو مطلق أم مقيد؟.

ففي المذهب الحنفي: يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره بعد قبضه، وذلك بمثل الأجرة الأولى أو أنقص منها، فإن أجرها بأكثر مما استأجرها به فهي جائزة -أيضًا-، إلا إن كانت الأجرة الثانية من جنس الأجرة الأولى، فإن الزيادة لا تطيب له، ويتصدق بها، أو إن كانت من خلاف الأجرة جنسها، فتطيب له الزيادة، وإذا زاد في الدار زيادة لنفعها، كما لو أصلح أبوابها أو شيئًا من حوائطها، طابت له الزيادة([1]).

وفي مذهب الإمام مالك:‏ لمكتري الدار أن يسكنها بنفسه، وله أن يكريها لغيره؛ لأن ملك منافعها ثابت له، وله أن يكريها بمثل الكراء أو أقل أو أكثر؛ لأنه معاوضة على ملكه، كبيع الأعيان، وعند الإمام مالك:‏ له أن يكريها ممن يثق فيه([2]).

وفي مذهب الإمام الشافعي:‏ يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة بعد قبضها؛ لأن الإجارة كالبيع، وبيع المبيع يجوز بعد القبض، فكذلك إجارة المستأجر، ويجوز من المؤجر وغيره، كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره.

ولكن هل يجوز تأجير العين قبل قبضها؟.

فيه ثلاثة أوجه:‏

الوجه الأول: لا يجوز، كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض.

والوجه الثاني: أنه يجوز التأجير قبل القبض؛ لأن المعقود عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر فيها قبض العين.

والوجه الثالث: أنه يجوز إجارتها من المؤجر؛ لأنها في قبضته، ولا يجوز من غيره؛ لأنها ليست في قبضته، ويجوز أن يؤجرها برأس المال، وبأقل منه، وبأكثر؛ لأن الإجارة بيع، وبيع المبيع يجوز برأس المال، وبأقل منه، وبأكثر منه، فكذلك الإجارة([3]).

وفي مذهب الإمام أحمد:‏ يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها، فإن كان قبل قبضها فلا يجوز من غير المؤجر في أحد الوجهين، كما هو قول الإمام أبي حنيفة والشافعي في المشهور عنهما، وذكر القاضي من أصحاب المذهب أنه لا يجوز؛ لأن رسول الله -ﷺ- نهى عن بيع ما لم يضمن، والمنافع لا تدخل في ضمانه؛ ولأنه عقد على ما لم يدخل في ضمانه، فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه([4]).

ولا شك في أن الفقهاء -رحمهم الله- قد راعوا ما كان سائدًا في أزمانهم من الأعراف فيما يتعلق بكراء الدور والدواب والسفن، وفي زمننا هذا قد تختلف الأعراف بين الأمم، فما يجوز القول به في بلد قد لا يجوز به القول في بلد آخر، والغالب اليوم في مسألة تأجير المؤجَّر أمران:

الأمر الأول: إنسان يملك بناية سكنية من عدة شقق، فيؤجرها بأجرة مقطوعة، على أساس أن المستأجر سوف يستثمرها لصالحه، على شكل نُزُلٍ أو فندق أو شقق أو نحو ذلك، فهذا ليس فيه مشكلة بين المالك والمستأجر، فلهذا أن يؤجر العين بشكل ما يشاء حسب ما ينص عليه الاتفاق بينهما.

الأمر الثاني: أن يؤجر المالك دارته أو شقته لشخص بعينه، ثم يقوم هذا بتأجيرها لغيره-كما هو الحال في السؤال-، فعلى رأي الفقهاء يجوز له تأجيرها ما دامت لا تتأثر بذلك، سواء كانت الأجرة بأقل أم بأكثر، وخالف في ذلك القاضي من فقهاء الحنابلة كما أشير إليه.

قلت:‏ والغالب أن المالك – كما هو الحال في السؤال – قد يؤجر دارته أو شقته لأشخاص بعينهم؛ إما لأنه يتوسم فيهم الحرص على صيانة العين المؤجرة، والمحافظة عليها، وإما لأنه يختار فئة متجانسة من المساكين، فإذا أجر المستأجر العين المؤجرة دون علمه أصابه الضرر؛ لأن المستأجر الآخر قد لا يكون على النحو الذي يريده؛ فمن المعلوم أن المستأجرين يتفاوتون في رعايتهم للعين المؤجرة، فمنهم من يرعاها، ويصونها، ومنهم عكس ذلك، ولما سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن رجل أجر دابته من رجل، فركبها إلى سفر من الأسفار، فأراد أن يكريها من غيره، قال: ليس ذلك له؛ إنه يكريها ممن يشبهه في خفته وثقله وأمانته. قال: ليس ذلك له؛ لأن الرجل يكري الرجل الدابة لما يعرف من ناحية رفقه، وحسن قيامه، وقد تجد الرجل لعله مثله في الأمانة، والحال لا يكون له من الرفق مثل ما لصاحبه([5]).

ومع الاختلاف بين الدابة والدارة إلا أن الشبه بينهما قائم، فعلى هذا إن كان هناك اتفاق بين المالك والمستأجر يجيز للأخير التأجير لشخص آخر فالعبرة بهذا الاتفاق، فإن لم يكن بينهما اتفاق فمن العدل، بل من الحق أن يستأذن المستأجر المالك في تأجير العين؛ دفعًا للضرر الذي قد يتعرض له.

وخلاصة المسألة:‏ أن جمهور الفقهاء على أنه يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة لشخص آخر، ويرى أحد علماء المذهب الحنبلي عدم جواز ذلك، ولعل من المناسب الرجوع في ذلك إلى ما يتعارفه الناس في زمانهم، فإن كان هناك اتفاق بين المالك والمستأجر يجيز لهذا الأخير التأجير لشخص آخر فالعبرة بهذا الاتفاق، فإن لم يكن بينهما اتفاق فمن العدل أن يستأذن المستأجر المالك في تأجير العين لشخص آخر؛ لما في ذلك من العدل، ورفع الضرر عن المالك.

والله -تعالى- أعلم.

([1]) الفتاوى الهندية ج4 ص478، وحاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج6 ص91-92.

([2]) المعونة على مذهب عالم المدينة للبغدادي ج2 ص1096-1097، والمدونة الكبرى للإمام مالك رواية ابن القاسم ج3 ص453.

([3]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي ج1 ص403.

([4]) المغني مع الشرح الكبير ج6 ص53-54.

([5]) المدونة الكبرى برواية ابن القاسم ج3 ص453.