سؤال عن رجل كثير المال، وقد اختلط ماله، فلا يدري صاحبه ما الحلال وما الحرام منه؟، وهو الآن ينتظر لقاء ربه، ولا يدري ما يفعل بماله؟.

من اختلط ماله فلا يدري صاحبه ما الحلال وما الحرام منه

المسلم يعرف من دينه بالضرورة أن الله حرم عليه أكل المال الحرام، كالربا والرشا والغصوب والغلول، والأحكام في هذا كثيرة.

ففي كتاب الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، وقوله -عز وجل-في ذم اليهود الذين كانوا يتعاملون بالربا: ‏{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، وقوله -عز ذكره-في تحريم الغلول:‏ {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} [آل عمران: 161].

أما في السنة: فقول رسول الله -ﷺ-: “لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به”([1])، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (‏لا ألفيّن أحدكم يوم القيامة، على رقبته فرس له حمحمة، يقول:‏ يا رسول الله! أغثني. فأقول:‏ لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول:‏ يا رسول الله! أغثني. فأقول: ‏لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك. وعلى رقبته صامت، فيقول: ‏يا رسول الله! أغثني. فأقول: ‏لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتك([2]).

وكما في الكتاب والسنة فإن إجماع الأمة في سلفها وخلفها منعقد على أن من الواجب على المسلم أن يُطَهِّر ماله، فلا يصيب منه إلا ما أحله الله وأباحه له، فإن فعل غير ذلك وجب عليه تطهير ماله بالتخلص مما هو حرام منه على تفصيل في ذلك، نجتزئ منه ما ورد في هذه المسألة:

ففي مذهب الإمام مالك: قال الإمام القرطبي: “‏إن سبيل التوبة مما بيد المسلم من الأموال الحرام، إن كانت من ربًا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرًا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر، ولم يدرِ كم الحرام من الحلال مما بيده؟، فإنه يتحرى  قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له، فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه، أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته، فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع، إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس، وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه؛ لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: ‏إذا كان في يد المرء مال مغصوب من الناس معين، فاختلط بماله، ولم يتميز، ‏وأراد التوبة فعليه أن يتراضى هو وصاحب المغصوب بالقسمة، فإن امتنع المغصوب منه من ذلك رفع التائب إلى القاضي، ليقبض منه، فإن لم يجد قاضيًا حكم رجلًا متدينًا لقبض ذلك، فإن عجز تولى ذلك بنفسه، ويعزل قدر ذلك فيه الصرف إلى المغصوب منه، سواء كان دراهم أم غيرها، فإن فعل ذلك حل له الباقي،  وفيه إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه، فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء، وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفًا([4]).

وفي مذهب الإمام أحمد:‏ أن الواجب في المال الحرام التوبة، وإخراجه على الفور يدفعه إلى صاحبه، أو إلى وارثه، فإن لم يعرفه، أو عجز على معرفته، دفعه إلى الحاكم أو تصدق به([5]).

قلت: ‏وخلاصة المسألة:‏ أن صاحب المال في السؤال إذا كان يستطيع أن يميز ما هو حلال وما هو حرام في ماله وجب عليه هذا التمييز، فيتخلص من الحرام برده إلى صاحبه أو أصحابه، ‏إن كان غصوبًا أو رشا إلى ورثتهم، وعلى هؤلاء قبول هذا المال؛ لأنه حق من حقوقهم؛ لأنهم إن ردوه إليه أعانوه على ظلمه، فإن لم يكن لصاحب المال وارث وجب دفعه إلى الحاكم؛ ليصرفه في مصالح المسلمين، وإن كان المال غلولًا كاستغلال الولاة والموظفين لولايتهم، وخيانة جباة الزكاة لأمانتهم، وجب رد هذه الغلول إلى الحاكم؛ ليصرفها في مصالح المسلمين، أما إن كان صاحب المال لا يستطيع تمييز ما هو حلال من ماله وما هو حرام منه، فيجب عليه أن يتحرى، ويقدر ما هو الحلال منه فيبقيه، وما هو الحرام منه فيخرجه، حسب ما ذكر.

وفي كل الأحوال عليه التوبة إلى الله، والإسراع فيها قبل دنو الأجل، يقول الله -عز وجل-: ‏{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18].

 

([1]) أخرجه الترمذي، برقم (614)، وحسنه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

([2]) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب الغلول، برقم (3073) فتح الباري ج6 ص214.

([3]) الجامع لأحكام القرآن ج3 ص366.

([4]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي ج9 ص350-354، والفتاوى الكبرى لابن حجر ج3 ص96-97.

([5]) كتاب الفروع لابن مفلح ج2 ص666.