الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين محمد وآله وصحابته أجمعين، أما بعد.
التلبية في الحج والعمرة مما علمه ومارسه الحجاج والعمار، فمنذ فجر الإسلام وهم يؤدون حجهم وعمرهم ويستشعرون عِظَمَ التلبية؛ استجابة لنداء نبي الله إبراهيم -عليه السلام- حين أذّن في الناس في الحج؛ استجابة لأمر الله له في قوله -عز وجل-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}[الحج: 27]، واستجابة أيضًا لما فعله رسول الله ﷺ في حجة الوداع، ففي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- عن هذه الحجة قال: فصلى رسول الله ﷺ في المسجد -في ذي الحليفة- ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء….أهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهلّ الناس بهذا الذي يهلّون به، فلم يرد رسول الله ﷺ عليهم شيئًا منه، ولزم تلبيته([1]).
والحاج والمعتمر قد يسأل عما إذا كانت التلبية واجبة عليه في نسكه، أم أنها مجرد سنة، أو استحباب، أو مجرد ذكر إن فعله فحسن وإن لم يفعله فلا جناح عليه.وحول هذه المسألة تباينت آراء الأئمة -رحمهم الله-:
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: تعد التلبية شرطًا حين يحرم الحاج، فلا تكفي النية في الإحرام بل تجب التلبية؛ أو ما يقوم مقامها ولو بغير العربية، وهذا الشرط مرة، والزيادة سنّة، ويكون بتركها مسيئًا. والأصل في هذا الشرط قول الله -عز وجل-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَاب}[البقرة: 197]، فالفرض المراد به هنا التلبية، فإذا نوى ولبس فقد أحرم؛ لأنه أتى بالنية والذكر، كما في الصلاة فيدخل في الإحرام([2]).
وفي مذهب الإمام الشافعي وأحمد: أن التلبية سنة أو مستحبة؛ لأنها ذكر، فلم تجب في الحج كسائر الأذكار([3]).
ويرى الإمام مالك: أن على من تركها دم، وقال غيره بوجوبها، ومن قال بهذا الوجوب استدل بأن أفعال الرسول ﷺ إذا أتت بيانًا الواجب أنها محمولة على الوجوب، حتى يدل الدليل على غير ذلك([4])، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «خذوا عني مناسككم»([5]).
قلت: ولعل هذا هو الصواب، فمع أن في شرط التلبية في الإحرام -عند الأحناف- قوة الحكم في تعظيم أمر التلبية، فقد يكون فيه عسر كبير للحاج الذي لم يلبِ عند إحرامه بسبب فساد هذا الإحرام لفقد الشرط، فيكون (الوجوب) حينئذ هو التوسط في الحكم؛ للأدلة التالية:
أولها: أن الله أمر نبيه إبراهيم -وهو أمر لنبيه ورسوله محمد وأمته- أن يؤذن في الناس في قوله -عز وجل-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 27-28]. وهذا يقتضي وجوب الذكر بالتلبية والجهر بها؛ لأن الله حين أمر نبيه إبراهيم بالأذان للحج بيَّنَ الغاية منه، فهو إلى جانب أنه ركن من أركان الإسلام؛ ففيه منفعة للناس، وفيه ذكر لاسم الله، فإذا لم يكن هذا الذكر انتفت إحدى الغايات من الحج، وحاشا أن تنتفي هذه الغاية.
وثانيها: أن في التلبية إجابة وطاعة لله -عز وجل- في أمره لنبيه إبراهيم -عليه السلام- بالنداء للحج.
والتلبية توحيد لله -عز وجل- بحمده ونفي الشرك عنه؛ ولهذا كان التوحيد أفضل ما يدعو به الحاج في صعيد عرفات؛ لقول رسول الله ﷺ: (أفضل ما قلت أنا والنبيين من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)([6]). فأقل ما يمكن لمن ترك هذه التلبية أن يريق دمًا؛ تكفيرًا عن إساءته وخطئه.
وثالث الأدلة: أن التلبية من فعل رسول الله ﷺ، فقد بدأ حجته النبوية بالإهلال بالتوحيد، ولم يعلم عنه أنه تركها أو قلل منها، أو أسَرَّ بها، بل كان يداوم عليها، ويجهر بها، كما كان أصحابه يجهرون بها حتى كانت أصواتهم تُبَحُّ من ترديدها والتصويت بها. وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن جبريل جاءه، وقال له: أن يأمر أصحابه بها؛ لأنها من شعائر الحج، وكان -عليه الصلاة والسلام- يلبي إذا رأى راكبًا، أو صعد أكمة، أو هبط واديًا. وكان يلبِّي في أدبار الصلوات المكتوبة، وفي آخر الليل، ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، كما ذكر ذلك الفضل بن العباس. ولو لم تكن التلبية واجبة لما أمر بها أصحابه، كما قال له جبريل -عليه السلام-، فوجب علينا أن نفعل مثل ما كان يفعل؛ لقول الله -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}[الأحزاب: 21].
ورابع الأدلة: إذا قيل باستحباب التلبية دون وجوبها فسيكون الإتيان بها من عدمه متروكًا لرغبة الحاج أو المعتمر، وهذا قد يُلَبِّي وقد لا يُلَبِّي طالما أن التلبية من باب الاستحباب له، وهنا سيكون أمر تركها واردًا، وهو ما يقع اليوم من بعض الحجاج مما يخالف المراد من إظهار شعائر الحج، ومنها ذكر اسم الله -تعالى- وتوحيده والجهر به في أيام الحج المعلومات.
وخامس الأدلة: قوله -عليه الصلاة والسلام- في حجته النبوية: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)([7]). وهذا يقتضي الأخذ بما كان يفعله -عليه الصلاة والسلام-، ومن ذلك إهلاله بالتلبية، وهذا يقتضي الوجوب طالما أنه لم يأت ما ينفيه بدليل آخر.
وسادس الأدلة: أن التلبية، ورفع الصوت بها مما كان يفعله المسلمون منذ فجر الإسلام، وما فعله ويفعله خلفهم من بعدهم حين حجهم وعُمَرهم لبيت الله الحرام، فأصبح هذا إجماعًا يقتضي الوجوب، فمن ترك هذا الوجوب حق عليه دم عن إساءته.
وخلاصة المسألة: أن القول بوجوب الدم على من ترك التلبية في الحج أو العمرة -كما قال الإمام مالك- لعله الصواب -إن شاء الله- وذلك لعدد من الأدلة هي: أمر الله لنبيه إبراهيم أن يؤذن في الحج؛ وأن في التلبية إجابة وطاعة الله -عز وجل-، وأنها من فعل رسول الله ﷺ، وإذا قيل باستحبابها دون وجوبها فسيكون الإتيان بها من عدمه متروكًا لرغبة الحاج، مما يخالف المراد منها. ومن أدلة الوجوب أنها من المناسك التي أمرنا رسول الله ﷺ بأخذها عنه، ومن الأدلة أنها من فعل المسلمين في سلفهم وخلفهم، فأصبح هذا إجماعًا على الوجوب.
والله تعالى أعلم
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ.صحيح مسلم بشرح النووي ج5 ص223-227.
([2]) الاختيار لتعليل المختار للموصلي ج1 ص144.
([3]) المهذب للشيرازي ج1 ص206. وروضة الطالبين للإمام النووي ج3 ص273. والمغني لابن قدامة بتحقيق عبدالله التركي ج5 ص100.
([4]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1 ص247.والثمر الداني في تقريب المعاني في شرح أبي زيد القيرواني، جمع وتحقيق عبد السميع الأبي الأزهري ص362.
([5]) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب استجباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم (1297).
([6]) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء يوم عرفة برقم (3585)، حسنه الألباني في صحيح الترمذي، (٣٥٨٥).
([7]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب إدامة التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج٤ ص٢٤٣، برقم (٧٦٢).