سؤال عن تحريف الكلام عن مواضعه، وما يترتب عليه؟

تحريف الكلام عن مواضعه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين محمد، وآله وصحابته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن من حكم الله وسننه في عباده أن يكون بينهم من يفسد الأرض بأنواع من الإفساد، ليميز الله الخبيث من الطيب والخير من الشر ومن هذا الإفساد تحريف الكلام عن مواضعه ومعانيه بالتبديل أو التلبيس أو التصحيف، لصرفه عن حقيقة هذه المعاني، ولهذا التحريف ثلاثة وجوه: أولها: تحريف الكلام عن مواضعه: كتحريف فريق من اليهود للتوراة، فبعد وفاة نبيهم موسى عليه السلام حكموا بأحكام التوراة، دون تحريف أو تبديل في أحكامها، كما أن النبيين والربانيين والأحبار منهم حكموا بها بسبب استحفاظهم لها كما نزلت، فلم يبدلوا أو يعدلوا أو يحرفوا، وكان هؤلاء شهداء عليها من التحريف والتبديل، وهو ما حكاه الله عز وجل عنهم بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} [المائدة: 44].

وبعد وفاة المستحفظين انتشر التحريف والتبديل في التوراة، ومن ذلك على سبيل المثال حكم الرجم للزناة، فقد روي أن رجلًا وامرأة منهم زنيا، فقال لهم رسول الله ﷺ: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نسخم وجهوهما، ونخزيهما. فقال عبدالله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فأتوا بها فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبدالله بن سلام رضي الله عنه ارفع يدك، فرفع يده. فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما([1]).

أما القرآن فلم يستطع أحد من أهل الكتاب أو غيرهم أن يحرف أو يبدل فيه؛ لأن التوراة استحفظها النبيون والربانيون وهم بشر، فتعرضت للتحريف. أما القرآن فقد حفظه الله بنفسه، وفي هذا قال جل في علاه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون } [الحجر: 9]، وقال تقدس اسمه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيد * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ} [البروج: 21-22]، فلم يكن لنبي أو رسول أو ملك أو بشر: أن يبدل أو يحرف فيه، ولما قال المشركون لرسول الله ﷺ: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]، يريدونه لأهدافهم، أنزل الله على نبيه ورسوله قوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم }  [يونس: 15].

وقد أخبر عز وجل عن محاولة فريق من أهل الكتاب التحريف في القرآن بقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون} [البقرة: 75]، أي أن هذا الفريق الذي كان يسمع القرآن، كان يحرفه ويؤوله على خلاف حقيقته، رغم فهمه لهذه الحقيقة، ونظيره قول الله عز وجل: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، ومحاولة التحريف للقرآن لم تتوقف طيلة هذه المدة من نزوله، فقد روي أن أحد الإسرائيليين تردد في إسلامه، ثم أسلم فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن أمتحن هذه الأديان، وأنا حسن الخط، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة، فاشتريت مني. وعمدت إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني. وعمدت إلى القرآن، فعملت ثلاث نسخ زدت فيها ونقصت، وأدخلتها سوق الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها، فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي([2]).

ومحاولة تحريف القرآن لم تقتصر على فريق أو فرقاء من أهل الكتاب، بل كانت من طائفة أو طوائف من المسلمين، فمنهم من صرف مثلًا تفسير قول الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، إلى إباحة نكاح المتعة، وهذا وإن لم يكن تحريفًا في النص، فهو تحريف في تفسيره، والشاهد على سوء هذا التفسير قول الله عز وجل: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، وهذا لا يكون إلا في النكاح الصحيح بأركانه وشروطه من ولي وشهود. وشاهده أيضًا أن رسول الله ﷺ حرم نكاح المتعة، بقوله عام فتح مكة: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا»([3]).

كما حاول بعض هذه الطوائف تحريف تفسير قول الله تعالى: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، بقوله: إن هذا لا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء. فالخاتم يعني أنه وسط فيأتي بعده غيره، وكان آخر المحاولات محاولة عدد من الملحدين الجدد التغيير في كتاب الله بحذف الآيات التي نزلت في مكة، لكونها تخاطب زمنًا مضى، كما مضى معه أهله، والاكتفاء بالآيات التي نزلت في المدينة؛ لأنها آيات الأحكام، وهذه المحاولات لن تنتهي، ولكن الله حفظ كتابه من التحريف والتبديل والتأويل والتصحيف الفاسد.

الوجه الثاني من التحريف: تحريف وتصحيف أحاديث رسول الله ﷺ: لم تقتصر محاولة التحريف والتصحيف على كتاب الله، وإنما امتد هذا إلى أحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام، وينقسم هذا إلى قسمين: الأول: تصحيف بفعل تعدد الرواة للحديث أو الخبر، وما قد يعتري أحدهم من الغفلة أو سوء الحفظ، فيكون نقله مشوشًا، فيتصدى أهل العلم لذلك، فينبهون عن هذا التصحيف. قال الإمام ابن كثير: ومن الناس من إذا سمع الحديث ملحونًا عن الشيخ ترك روايته؛ لأنه اتبعه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن في كلامه، وإن رواه عنه على الصواب فلم يسمعه منه كذلك([4]).

القسم الثاني: التحريف والتصحيف بسبب سوء العقيدة، وهذا ما كانت تفعله الفرق والطوائف المغالية، ذات الأهداف الباطنية، ابتداء من ابن سبأ، ومن جاء بعده وصدقه، واتبعه، أو من الفرق التي تتابعت وعملت على تحريف بعض الأحاديث عن طريق «الوضع» والتفسير أو التبديل أو التدليس، وهو ما ظهر في العديد من الكتب، التي تداولتها هذه الفرق، ونشرتها بين بسطاء المسلمين، فأباحت ما حرم الله، وحرمت ما أباحه.

ورغم غفلة الأمة في بعض مراحلها عما كانت تفعله هذه الفرق الباطنية، إلا أن فريقًا من أهل العلم الأقدمين تصدى لهذا السوء، فميز بين الأحاديث الصحيحة بعد التدقيق في رواتها، وأبطل الأحاديث الموضوعة، وبيّن ضعف بعض هذه الأحاديث لضعف رواتها. وما صنعه الشيخ الألباني رحمه الله في مراجعة الأحاديث النبوية، وتمييز الصحيح والموضوع والضعيف فيها، يدل على أن هذه الأمة لا تزال بخير في دينها، وأن أحاديث نبيها ورسولها مصانة ومحفوظة في صدور الرجال.

الوجه الثالث: التحريف والتصحيف في الأمور الشخصية: الإفساد لا ينحصر في تحريف أو تصحيف الكتب السماوية، بل يتعدى إلى كل ما مناطه الأمور الشخصية: كالكتب والسجلات والأختام والوثائق والمحررات، أيًا كان مسماها، وربما كان التحريف والتصحيف محدودًا في الماضي لعدم كثرة هذه الوثائق. أما في هذا الزمان وما فيه من كثرة الأوراق ووسائل الطمس والتبديل، أصبح تحريف الكلام محسوسًا ومشهودًا، كما هو الحال في تركيب الصور، وتحريفها والتعديل فيها بوسائل التقنية الحديثة، فهذا كله من التزوير المحرم، ومن تحريف الكلام عن مواضعه. وغاية المحرف والمصحف في هذه الوثائق تزويرها. إما جلب منفعة لنفسه كالتحريف في الوصايا والأوقاف وسجلات الأراضي ونحوها، وإما إيقاع الضرر لغيره، كما هو الحال في تركيب الصور وتحريفها، ضد شخص بعينه رغم براءته، مما نسب إليه فيها.

وقد أشار الفقهاء رحمهم الله إلى تحريم هذا الفعل، فقالوا: إن من أسقط حقًّا لغيره، أو أثبت لنفسه، أو لغيره من الحق ما ليس له أو ألحق بأحد من الناس ضررًا بغير حق استحق التعزير([5]).

وحاصل القول: إن من حرف أو حاول تحريف أو تصحيف كلام الله أو تفسيره على غير حقيقته، أو حرف أو صحف أحاديث نبيه ورسوله، يعد معتديًا وظالمًا، ويأثم إثمًا كبيرًا، كما أن من حرف أو زور في الوثائق والسجلات بقصد إثبات حق لنفسه، وهو ليس له، أو فعل ذلك للإضرار بغيره، يعد كذلك معتديًا، ويأثم إثمًا كبيرًا مستحقًّا للعقاب.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب الرجم في البلاط، برقم (6819).

([2]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج10ص 5-6.

([3]) أخرجه مسلم برقم (1406).

([4]) الباعث الحثيث إلى اختصار علم الحديث ص145.

([5]) ينظر: المبسوط للسرخسي ج16ص92 وحاشية ابن عابدين 5ص435 والفواكه الدواني لابن أبي زيد القيرواني 16/64،145 والحاوي الكبير للماوردي 19ص364 والمغني لابن قدامة 10/ص233 .