سؤال عن الغاية التي يبتغيها العبد من إيمانه بالله، وكيف يكسب بهذا الإيمان رضاه، وما أسباب هذا الرضا؟

غاية المؤمنين من إيمانهم أن يرضى الله عنهم

رضا الله غاية يبتغيها العبد وهو يوحد ربه ويطيعه، وهو حين يفعل ذلك يدرك بفطرته أن هذه الغاية لا تدرك إلا من خلال الصدق في العمل المكلف به؛ فهو حين يصدق في علاقته بربه وفي علاقته مع جنسه، يدرك أنه قد تجاوز بذلك هوى النفس وغواية الشيطان؛ فيصلي طمعًا في رضا الله، وخوفًا من سخطه، ويزكي طمعًا كذلك في رضاه واتقاء عقابه، ويدرك كذلك أن صلاته وزكاته تعبران عن صدق في إيمانه، خلاف من يفعل ذلك وقلبه معلق بغرض آخر.

وكما يكون العبد في هذه العلاقة صادقًا مع ربه يكون كذلك صادقًا مع جنسه، فيحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، وفي هذا الإيمان تنتفي كل أسباب العداوة الدنيوية، التي تحدث في إطار التنافس بينه وبين بني جنسه.

فالصدق إذًا من أسباب رضا الله، وعلى هذا الصدق يترتب الجزاء في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن المؤمنين لا يخشون أحدًا فيها؛ لأن علاقتهم منوطة بربهم فتصغر عندهم كل علاقة دونه، فهم لا يخشون الفقر؛ لأنهم استغنوا بالله، ولا يخشون الظلم من أحد، ولا يستغيثون به لرفع هذا الظلم؛ لأنهم لا يستغيثون إلا بالله، وهم لا يستعينون بأحد لقضاء حاجة من حاجاتهم؛ لأنهم لا يستعينون إلا بالله، فهو حسبهم وكافيهم ومعينهم في سرائهم وضرائهم.

وأما في الآخرة فإن صدق المؤمنين في الدنيا يبلغهم رضا الله في الآخرة، وهذا الرضا هو الجنات بما فيها من النعيم والخلود، وفي هذا المعنى بيَّن الله لنبيه عيسى -عليه السلام- (وهو بيان لنبيه ورسوله محمد r أن الإيمان بالله والصدق فيه يؤدي إلى رضاه. فلما قال عيسى لربه -عز وجل- عن حال اليهود والنصارى -وهو أعلم بهم-: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [المائدة: 117]. قال الله عز وجل: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [المائدة: 119].

قلت: وما كانت الأمم الهالكة لتهلك إلا بعد أن كذبت رسلها، فلم تصدقهم فيما جاؤوا به من البينات الدالة على وجود الله وملكيته للكون، وما فيه من المخلوقات، وما يجب على هذه المخلوقات من توحيده وتعظيمه، والصدق في عبادته. فلما عصت ما أَمُرتْ به كان عاقبتها الهلاك. وما كانت الأمم المتتابعة لتصاب بما أصيبت به من الزلازل والبراكين والفتن والأمراض وضيق العيش إلا بسبب عدم تصديقها لما بين يديها من البينات، أو بسبب ضعفها في هذا التصديق؛ لأن الإيمان كل لا يتجزأ، والقوة فيه أساس في تحقيق غايته.

ومن أسباب رضا الله عن المؤمنين: هجرتهم إليه عندما يكونوا في ضيق بسبب الجهر بإيمانهم، ومن المعلوم أن الهجرة من مكان إلى آخر ليست بالأمر اليسير؛ لأن النفس ترى سعادتها في المكان الذي ألفته وعاشت فيه، وما يكون لها أن تهجر هذا المكان إلا توكيدًا لصدق إيمانها بما جاءها من البينات؛ فالمؤمنون الذين هاجروا إلى الحبشة ما كانوا ليهاجروا من وطنهم مكة إلا فرارًا بدينهم بعد أن صدقوا ما عاهدوا الله عليه. والمؤمنون من المهاجرين والأنصار الذين شهدوا بيعة الرضوان (بيعة الحديبية) ما كانوا ليعاهدوا نبيهم ورسولهم محمدًا r على الموت في سبيل الدفاع عن الرسالة التي جاء بها، إلا لأنهم صدقوا في إيمانهم بهذه الرسالة، فكان جزاؤهم هم ومن اتبعهم بإحسان رضا الله عنهم بقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 100]. وقوله عز ذكره: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. فهذا العلم الذي علمه الله في قلوب المؤمنين في هذه البيعة هو الصدق في الإيمان، وهذا لا يكون إلا بعد بلوغ النفس مراتب اليقين.. إن هؤلاء المؤمنين في هجرتهم ومبايعتهم لم يكونوا جيشًا كما كانت جيوش الفرس والرومان في ذلك الزمان، ولم يكونوا قوة في عددهم وعتادهم، وإنما كانوا مؤمنين برسالة ربهم ومصدقين لها؛ كانوا لا يتجاوزون في إسلامهم ألفا وأربع مئة رجل وقلة من النساء المؤمنات، فكان هذا الإيمان والصدق فيه سلاحهم وقوتهم، فتحقق لهم النصر في الدنيا والفوز برضا ربهم في الآخرة.

ومن أسباب رضا الله عن العبد: (عمل الصالحات)، وهذا العمل جامع لكل ما يفعله من خير، دون حصر لطبيعة هذا الفعل؛ فمن يصلي ويزكي ويصوم ويحج يكون ممن عمل الصالحات،

ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويميط الأذى عن الطريق، ويكف لسانه ويده عن الأذى، يكون ممن عمل الصالحات، وهكذا في فعل كل ما يجب على العبد مما جاءت به الرسالة.

ولقد امتن الله -عز وجل- على المؤمنين الذين يعملون الصالحات بمنتين عظيمتين:

أولاهما أنهم {خَيْرُ الْبَرِيَّة} [البينة: 7]. في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة} [البينة: 7]. وإذا أخذ بعموم الآية فإن الله قد فضلها على سائر المخلوقات بما فيهم الملائكة.

وقد أشار رسول الله r إلى وصف من أوصافهم، فقد روى أبو هريرة t أن رسول الله r قال: «ألا أخبركم بخير البرية؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه. ألا أخبركم بخير البرية قالوا بلى يا رسول الله قال رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «من يسأل بالله ولا يعطى به»([1]).

وثاني المنتين: عظم الجزاء، وهو رضا الله عنهم، وهذا الرضا غاية ما يتمنونه. قال عز وجل: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه} [البينة: 8].

وخلاصة المسألة: أن الأسباب التي توصل إلى رضا الله كثيرة، ومنها الصدق في الإيمان، سواء في علاقة العبد مع ربه في صلاته وزكاته وسائر أحواله، أو في علاقته مع بني جنسه فيما يحب له أو يكره له. وما كانت الأمم الهالكة لتهلك إلا بسبب تكذيبها لما جاءها من البينات، وما كانت الأم المتتابعة لتصاب بالكوارث والفتن إلا بسبب عدم تصديقها لما جاءها من البينات أو بسبب ضعفها في هذا التصديق. ومن أسباب رضا الله الهجرة إليه، وذلك حين يفر المرء بدينه، كما فعل المهاجرون الأول من المسلمين. ومن هذه الأسباب عمل الصالحات، وهذا العمل جامع لكل ما يفعله العبد من فعل جماعة ما جاءت به الرسالة من الأوامر والنواهي. والله أعلم وهو أحكم الحاكمين.

 

([1]) أخرجه الإمام أحمد في المسند ج2 ص 396، صححه  شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب، (٩١٤٢).