سؤال عن الحكم فيما إذا لم يجد الحاج مكانًا في منى يبيت فيه ليالي أيام التشريق.

حكم المبيت في منى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين محمد وآله وصحابته أجمعين، أما بعد.

المراد بالمبيت في مشعر منى الإقامة فيه ليلًا حسب حدوده المعروفة حتى ينتهي الحاج من حجه أي تنتهي ليالي أيام التشريق، وهي: الحادي عشر والثاني عشر للمتعجل، وليلة الثالث عشر للمتأخر، والأصل في المبيت فيه فعل رسول الله ﷺ؛ فقد بات ومن كان معه من المسلمين في منى أيام التشريق، واتباع فعله -عليه الصلاة والسلام- متوجب عينا على كل من أراد الحج، لقوله: (لتأخذوا عني مناسككم)([1])، ولم يستثن من ذلك إلا رعاة الإبل ومن يلي السقاية، وقد أجمعت الأمة جيلًا بعد جيل على هذه السنة، وستتبعها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلله الحمد والمنة على ما أنعم به على عباده في نسكهم ومشاعرهم.

وقد أجمع سلف الأمة من علمائها وفقهائها في كل عصر من عصورها على مشروعية المبيت في منى، إلا أنهم اختلفوا في حكمه هل هو واجب أم سنة؟ ولهم في ذلك قولان:

القول الأول: الوجوب:

وهو قول الإمام مالك بن أنس فعنده أن ترك المبيت بمنى لياليها أو ليلة منها فعليه دم([2]). قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير: وإن ترك جل ليلة فدم أي لا نصفها، والمراد أن ترك غير المتعجل جل ليلة من الليالي الثلاث أو ترك المتعجل جل ليلة من اليلتين، وليس المراد جل ليلة من أي ليلة من الليالي الثلاث للمتعجل وغيره إذ المتعجل لا يلزمه بيات الثالثة([3]).

وقال بالوجوب الإمام الشافعي: قال رحمه الله: ولا يبيت أحد من الحاج إلا بمنى… ولا رخصة لأحد في ترك المبيت عن منى إلا رعاء الإبل، وأهل السقاية؛ سقاية العباس بن عبدالمطلب دون السقايات، ولا رخصة فيها لأحد من أهل السقايات إلا لمن ولي القيام عليها منهم([4]).

قال الإمام النووي: ويبيت بمنى ليالي الرمي؛ لأن النبي ﷺ فعل ذلك، وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما: أنه مستحب؛ لأنه مبيت فلم يجب كالمبيت ليلة عرفة، والثاني: أنه يجب؛ لأن النبي ﷺ رخص للعباس في ترك المبيت؛ لأجل السقاية، فدل على أنه لا يجوز لغيره تركه، ثم قال: ومختصر الأحكام أنه ينبغي أن يبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وهل المبيت بها واجب أم سنة؟ فيه طريقان أصحهما وأشهرهما وبه قطع المصنف والجمهور فيه قولان: أحصهما أنه واجب، فإن ترك المبيت جبره بدم بلا خلاف([5]).

وممن قال بوجوب المبيت في منى ليالي أيام التشريق الإمام أحمد، وقيل في رواية أخرى عنه أنه مستحب وليس بواجب، قال المرداوي: مفهوم قول المصنف: وليس على أهل سقاية الحاج والرعاء مبيت بمنى أن غيرهم يلزمه المبيت بها مطلقاً، وهو صحيح وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، (وهذا خلاف الرعاء وأهل السقاية ممن لا تلزمهم البيتوتة) غير الرعاء كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم، حكمهم حكم الرعاء في ترك البيتوتة([6]وممن قال بالوجوب من المتأخرين من فقهاء الحنابلة سماحة شيخنا محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله قال: وتجب الفدية على من ترك المبيت بمنى([7])، وقال بهذا أيضًا شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز -رحمه الله- قال: المبيت في منى واجب على الصحيح ومن تركه بلا عذر فعليه دم([8]).

وقد استدل القائلون بوجوب المبيت في منى ليالي أيام التشريق بعدة أدلة منها: حديث ابن عمر -رضي الله عنه- الذي رواه الشيخان أن رسول الله ﷺ رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته([9])، وفي هذا دليل على أن المبيت في منى سنة من سنن رسول الله ﷺ يجب اتباعها، وأن رخصته للعباس لغرض السقاية دليل على عدم رخصته لغيره، قال الإمام ابن حجر: وفي هذا الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن([10]).

ومن أدلة الوجوب ما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ أفاض من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس([11]).

ومن أدلة الوجوب: ما رواه الإمام مالك عن نافع أنه قال: زعموا أن عمر بن الخطاب كان يبعث رجالًا يدخلون الناس من وراء العقبة([12])، وما رواه أيضًا عن نافع عن عبدالله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة، وما رواه أيضًا عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في البيتوتة بمكة ليالي منى: لا يبيتن أحد إلا بمنى([13]وقال الباجي في المنتقى: … والأصل في ذلك أن النبي ﷺ بات بمنى ليالي منى، وأرخص في المبيت بمكة لأجل السقاية، وهذا يدل على أنه مأمور به، وإلا فكان يجوز للعباس ذلك ولغيره دون إرخاص، وقد تأكد ذلك بفعل الأئمة بعد النبي ﷺ ثم بمنع عمر المبيت وراء العقبة وهذا إجماع لعدم الخلاف([14]).

القول الثاني: إنه سنة وليس بواجب: ولكنه يكره المبيت في غير منى، وقال بهذا الإمام أبو حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد أشرنا إليها. قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار: قوله (فيبيت بها للرمي) أي ليالي أيام الرمي هو السنة فلو بات بغيرها كره ولا يلزمه شيء([15]وقال ابن الهمام في فتح القدير: هو سنة عندنا يلزم بتركه الإساءة([16]). وممن قال بعدم الوجوب ابن حزم قال: ومن لم يبت ليالي منى بمنى فقد أساء ولا شيء عليه([17]).

وقد استدل القائلون بعدم الوجوب من الحنفية بأن المقصود من البيتوتة وغيرها، وهو أن يسهل عليه ما يقع في الغد من النسك وهو الرمي، فلما لم تكن مقصودة لنفسها لم تكن (البيتوتة) من أفعال الحج فلم يوجب تركها جابرًا كالبيتونة بمنى ليلة العيد([18])، كما استدلوا على رواية الإمام أحمد بعدم الوجوب بقول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت، ولأنه مبيت بمنى فلم يجب كليلة عرفة، وقال الإمام أحمد: يطعم شيئًا تمرًا أو نحوه أو أي شيء تصدق به أجزأه([19]). واستدل الإمام ابن حزم بقول ابن عباس (فبت حيث شئت) كما استدل بأن النبي ﷺ وإن كان بات بمنى إلا أنه لم يأمر بها فالمبيت بها إذًا سنة وليس بفرض؛ لأن الفرض إنما هو أمره ﷺ فقط([20]).

قلت: هذه بإيجاز آراء الفقهاء، منهم من قال بوجوب المبيت في منى، ومنهم من قال بسنيته، وعامتهم على الوجوب وهو الصحيح؛ لقوة الأدلة وتوارث الأمة من بعد رسول الله ﷺ المبيت في منى، واجتماعهم فيه عصرًا بعد عصر، وجيلًا بعد جيل، ناهيك بأن فيه اجتماع الأمة في صعيد واحد، وهذا من قواعد الحج ومقاصده.

ومع ذلك فإن الزمان الحالي بما فيه من كثرة أعداد الحجاج خلاف ما كانت عليه أعدادهم في الأزمنة الماضية، وما يحتمل أن تكون عليه أعدادهم في الأزمنة القادمة من تزايدهم على نحو يصعب أو يتعذر معه استيعاب مشعر منى لمبيتهم ليالي أيام التشريق، الأمر الذي يجعل من الضروري السماح لهم بالمبيت خارج منى، وهو أمر يتفق مع المقاصد العامة للإسلام في التيسير ونفي الحرج عملًا بقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقوله عز ذكره: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقول رسول الله ﷺ: (يسروا ولا تعسروا)([21])، ناهيك بقول من قال من العلماء بأن هذا المبيت سنة، وليس بواجب، كما أشير إليه آنفًا، وناهيك بأن المسجد الحرام وهو أقدس المشاعر وأعظمها، قد تمت توسعته منذ العهد الأول للرسالة استجابة لمقتضيات الزمان وحاجة الحجاج والمعتمرين للتيسير عليهم، وقال فيه: لو مد إلى صنعاء لكان حرماً([22])، فعلى هذا يجوز مد مشعر منى إلى أطرافه، وذلك بالسماح لمن لم يجد مكانًا يبيت فيه أن يبيت خارجه، وبهذا قال شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز -رحمه الله- أن من لم يجد مكانًا في منى، فله أن ينزل خارجها([23]).

قلت: ولعل من المناسب أن يكون مبيت من لم يجد مكانًا في منى أن يكون مبيته في العزيزية وما بعدها إلى داخل مكة؛ لأنها بمثابة الامتداد الجغرافي الطبيعي لمنى، ولأن مشعري مزدلفة وعرفات المجاورين لمنى مشعران مستقلان لهما أحكامهما، فلا يستحب التداخل بين منى وبينهما.

وخلاصة المسألة: أن من الفقهاء من قال بأن المبيت في مشعر منى سنة مع كراهة المبيت خارجه، ولكن غالبية الفقهاء على أنه واجب، ويترتب على تاركه دم ما لم يكن له عذر، ومع تكاثر الحجاج في هذا الزمان، واحتمال تكاثرهم في الأزمنة القادمة على نحو يصعب أو يتعذر معه استيعاب مشعر منى لمبيتهم فيه ليالي أيام التشريق، الأمر الذي يجعل من الضروري السماح لهم بالمبيت خارجه، وهذا مما يتفق مع قواعد الإسلام ومقاصده في التيسير على الأمة ونفي الحرج عنها، عملًا بقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقوله عز ذكره: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

فعلى هذا يجوز مد مشعر منى إلى أطرافه، وذلك بالسماح لمن لم يجد مكانًا فيه أن يبيت خارجه مما يليه حتى داخل مكة.

والله تعالى أعلم.

 

([1]) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم (١٢٩٧) صحيح مسلم يشرح النووي ج٦ ص٣٥١٦.

([2]) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس ج1 ص417.

([3]) حاشية الدسوقي ج2 ص49 والتلقين في الفقه المالكي للبغدادي ج1 ص229-230.

([4]) الأم للإمام الشافعي ج1 ص215.

([5]) المجموع شرح المهذب للإمام النووي ج8 ص245-248، وروضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي ج3 ص105.

([6]) الإنصاف ٤/٤٦ والكافي لابن قدامة، ج2 ص448، وكشاف القناع عن متن الإقناع ج2 ص510.

([7]) فتاوى ورسائل الشيخ ص120.

([8]) فتاوى الشيخ ج17 ص359.

([9]) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى برقم (١٧٤٣-١٧٤٥9) فتح الباري ج٣ ص٦٧٦.

([10])     فتح الباري ج٣ ص٦٧٦.

([11])     أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب رمي الجمار برقم (١٩٧٣)، حسن إسناده شعيب الأرنؤوط في تخريج سنن أبي داود، (١٩٧٣).

([12])     أخرجه الإمام مالك في الموطأ ج١ ص٤٠٦، في الحج باب البيتوتة بمكة ليالي منى، قال ابن عبد البر في التمهيد، (١٧/٢٦٣): حسن ما في هذا الباب.

([13])     الموطأ للإمام مالك ص373، باب البيتوتة بمكة ليالي منى، قال ابن عبد البر في الاستذكار، (٣/٦٤١)، مرسل، ولا يصح فيه شيء.

([14])     المنتقى شرح الموطأ ج٣ ص٤٥.

([15])     حاشية رد المحتار ج2 ص520.

([16])     فتح القدير، ج٣ ص٥٠١.

([17])     المحلى ج٧ ص١٨٤.

([18])     البابرتي: شرح العناية.

([19])     الكافي لابن قدامة ج2 ص448-449.

([20])     المحلى ج٧ ص ١٨٤-١٨٥.

([21])     أخرجه البخاري (٦٩)، ومسلم (١٧٣٤).

([22])     أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا برقم (٦٩)، فتح الباري ج١ ص١٩٦.

([23])     انظر: مجموع فتاوى ابن باز، الجزء الخامس (الحج والعمرة) القسم الثاني، ص 251، دار الوطن الرياض. وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة 11/268.