سؤال عمن يصلي وثيابه نجسة أو متسخة، ومن يمس المصحف وهو غير طاهر.

حكم من يصلي وثيابه نجسة أو متسخة

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

   فينبغي التفصيل في هذه المسألة،  وذلك من وجهين : الأول: من يصلي  وثيابه نجسة، والنجاسة  في اللغة القذارة، يقال تنجس الشيء أصبح نجسًا وتلطخ بالقذارة ([1]). وفي الاصطلاح عند الشافعية أنه مستقذر  يمنع صحة الصلاة ([2]). وعند الحنابلة أنها النجاسة  ما يخرج من سبيلي العبد كالبول والغائط ([3])ومن النجاسة المني والودي والمذي  والقيح والصديد والقيء والنفاس والحيض والدم المسفوح، ومن النجاسة أرواث الحيوانات ونحوها، فهذه الأنجاس تمنع صحة الصلاة ومنها ما يوجب الوضوء ومنها ما يوجب الغسل، وهذا ليس محل خلاف؛ فالعبد يعلم أن ما يخرج من السبيلين : (من البول والغائط) يوجب عليه الوضوء  للصلاة،  وما يخرج  من الحائض والنفساء يوجب الطهارة.. وهكذا، باستثناء ما قد يراه غير موجب لها، مثل القيء البسيط أو الدم القليل .

   أما الصلاة بثياب متسخة  فتجوز الصلاة فيها، وذلك مثل الملطخ  بزيوت السيارة أو شحومها أو بأي مادة موسخة للملابس، ولكن الأحوط والأفضل  الصلاة في ثياب نظيفة؛ فالعبد يناجي الله في صلاته ويتزين في أمور الدنيا، بل إن بعضهم يسرف في هذه الزينة فالله أحق أن يتزين العبد له. والأصل فيه قوله -عز وجل-  : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(الأعراف:31).  والأصل فيه أيضًا قول رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-  : (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)([4]). وقوله -عليه الصلاة والسلام-  : (الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ)([5]).

و بعض المصلين  لا يبالي  بأي لباس يلبسه، فيذهب إلى المسجد في ثياب نومه، بينما يتشدد أمام الناس في زينة لباسه ومظهره، ناهيك بما في الملابس المتسخة من الروائح  الكريهة؛ وما يسببه ذلك من الأذى للمصلين، ولقدسية المسجد وأثاثه .

  الوجه الثاني :  من يمس المصحف وهو غير طاهر، فهذا لا يجوز له مسه وإنما يجوز له قراءة القرآن عن ظهر قلب، أو عن طريق الهاتف النقال مثلًا، والأصل في وجوب الطهارة لمس المصحف قول الله -عز وجل-  : (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(الواقعة:79)، وفي هذا خلاف بين المفسرين، فمنهم من يقول بأن المراد من قول الله -تعالى- : ( لا يمسه إلا المطهرون) الملائكة، ومنهم من يقول أن المراد  الذين طهروا من الذنوب، وقيل إن المراد الرسل، وقيل المطهرون من الشرك، وقيل المطهرون من الذنوب والخطايا، والتأويل   في تفسير هذه الآية كثير، ولكن الأصح -والله أعلم- أن المراد به المتطهرون من الأنجاس والأحداث، والشاهد فيه كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ”  بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، من محمدٍ النبيِّ إلى شُرَحبيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، ونُعيمِ بنِ عبدِ كُلالٍ، والحارثِ بنِ عبدِ كُلالٍ – قيل: ذي رُعَينٍ ، ومعافرَ ، وهمدانَ – أما بعد ، وكان في كتابه: ولا يمَسَّ القرآنَ إلا طاهرٌ”([6])، والأصل فيه أيضًا قصة إسلام عمر، نوردها بالتفصيل فعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اللهم أَعِزَّ الإسلامَ بأَحَبِّ هذين الرجُلَيْنِ إليك: بأبي جهلٍ أو بعمرَ ابنِ الخطابِ، قال وكان أَحَبَّهُما إليه عمرُ)) وروى أهل السِّير أنَّ عمر خرج يومًا مُتوشِّحًا سَيفَهُ يُريدُ القضاءَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلقِيهُ رجلٌ فقال: أين تعمدُ يا عُمَرُ؟ قال: أريدُ أنْ أقتُلَ محمَّدًا. قال: كيف تأمنُ من بني هاشمٍ ومن بني زُهرةَ وقد قتلتَ محمَّدًا؟ فقال له عُمَرُ: ما أراك إلَّا قد صَبَوْتَ، وتركتَ دينَك الذي كنتَ عَليهِ، قال: أفلا أدُلُّك على العَجَبِ يا عُمَرُ؟ إنَّ أُختَك وخَتَنَكَ قد صَبَوَا، وتركا دينَك الذي أنت عَليهِ، فمشى عُمَرُ إليهِما، وعندهُما خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ، معه صَحيفةٌ فيها: سُورةُ [طه] فاطمةُ أُختُ عُمَرَ الصَّحيفةَ، وكان قد سمِع عُمَرُ حين دنا مِنَ البيتِ قِراءةَ خَبَّابٍ إليهِما، فلمَّا دخل عليهِما قال: ما هذه الهَيْنَمَةُ التي سمعتُها عندكُم؟ فقالا: ما عَدا حديثًا تحدَّثناهُ بيننا. قال: فلَعلَّكُما قد صَبَوْتُما، فقال له خَتَنُهُ: يا عُمَرُ، أرأيتَ إنْ كان الحقُّ في غيرِ دينِك؟ فوثبَ عُمَرُ على خَتَنِهِ فَوَطِئَهُ وَطْئًا شَديدًا، فجاءتْ أختُه فرفعتْهُ عن زَوجِها، فَنَفَحَها نَفْحَةً بيدِه، فَدَمَّى وجهَها، فقالتْ وهي غَضبى: يا عُمَرُ، إنْ كان الحقُّ في غيرِ دينِك، أشهدُ أنْ لا إلَه إلَّا الله، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله. فلمَّا يَئِسَ عُمَرُ، ورَأى ما بِأُختِه مِنَ الدَّمِ نَدِمَ واستَحْيا، وقال: أَعْطوني هذا الكتابَ الذي عندكُم فأَقرؤهُ، فقالتْ أختُه: إنَّك رِجْسٌ، ولا يَمَسُّهُ إلَّا المُطهَّرون، فقُمْ فاغْتسِلْ، فقام فاغتسَلَ، ثمَّ أخذَ الكتابَ، فقرأَ: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أسماءُ طَيِّبَةٌ طاهرةٌ. ثمَّ قرأَ [طه] حتَّى انتهى إلى قولِه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) فقال: ما أحسن هذا الكلامَ وأَكرمَهُ! دِلُّوني على محمَّدٍ. فأتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأَسلمَ عندَه، ثمَّ خرج المسلمون معهُ في صَفَّيْنِ حتَّى دخلوا المسجدَ، فلمَّا رأتهُم قُريشٌ أصابتْها كآبةٌ لم تُصبْها مِثلُها([7]).

نعم:(لا يمسه إلا المطهرون) ونحن عندما نتكلم عن مس  كتاب الله ندرك أن من  يقرؤه يقرأ كلام الله، المتمثل في أعظم كتاب أنزل على العباد، قال فيه: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه)(الحشر:21).

فاقتضى ما ذكر أن الأقوال التي وردت في تفسير الآية و تأويلها مجرد اجتهاد  وتأويل، قد يخطئ صاحبه وقد يصيب، ولكن الذي لا شك فيه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتابه لعمرو ابن حزم” لا يمس القرآن إلا طاهر”،  ونزع فاطمة أخت عمر للصحيفة  من يده دليل على أن صحابة رسول الله كانوا  لا يمسون القرآن إلا وهم على طهارة، ولو لم يكن ذلك لما نزعت أخت عمر الصحيفة من يد أخيها، ومن ثم قيامه بالتطهر و إعلان إسلامه.

وخلاصة المسألة أن النجاسة في البدن أو اللباس تمنع من صحة الصلاة،  وأن اتساخ اللباس لا يمنع من صحة الصلاة، ولكن من الواجب على المسلم أن يتزين في لباسه في أثناء صلاته؛ عملًا بأمر الله له أن يأخذ بزينته عند المساجد، أما مسألة مس القرآن فيجب أن يكون على طهارة؛ أخذًا بالأدلة النقلية والعقلية.

والله -تعالى- أعلم.

 

[1] – المصباح المنير مادة : (قذر).

[2] – القليوبي على المنهاج  ج1ص 67 والإقناع للشربيني الخطيب  ج 1ص 122.

[3] -الإنصاف)) للمرداوي  ج 1ص26.

[4] – أخرجه مسلم برقم : (91).

[5] – أخرجه مسلم  برقم : (223).

[6] السنن الكبرى للبيهقي 4/89، و أوجز المسالك إلى موطأ مالك لمحمد زكريا الكاندهلوي ج13 ص 6، وسنن الدارمي ج2 ص 352 رقمه(2365).

 

[7] رواه الترمذي (3681) ورواه الحاكم في “المستدرك” (3 / 83) وأشار الحافظ ابن حجر إلى تقويته بشواهده، “فتح الباري” (7 / 48) وصححه الشيخ الألباني في “صحيح سنن الترمذي” (3 / 509).